الأسمنت.. أزمة تدعو للقلق
تناول تقرير أعدته " مجموعة سامبا المالية " الأسباب التي أدت إلى الارتفاع الحاد نسبياً في معدل التضخم في السوق السعودية في الآونة الأخيرة. و جاء في ذلك التقرير، الذي نشرته "الاقتصادية " بتاريخ 6/4/2007م, أن شهر ديسمبر لعام 2006م شهد قفزة في معدل التضخم السنوي إلى 2.9% بعد أن كان أقل من 1% خلال العشر السنوات السابقة, وعزا التقرير تلك القفزة في المعدل إلى عدة أسباب رئيسة, كان من بينها ما أسماه " العرض المحدود " في قطاع العقار والعمالة الماهرة والمواد الأولية.
تلك الأسباب أو المعوقات التي ساهمت فيما تعاني منه السوق من ضغوط تضخمية سبق أن تنبه لها مجلس الوزراء وناقشها في أكثر من جلسة في أربع محاور رئيسة : استخدام العمالة, إجراءات ترسية المشاريع الحكومية, صرف مستحقات المقاولين, وتوافر سلع المواد الإنشائية في الأسواق المحلية بأسعار مناسبة. وقد صدر عن المجلس في اجتماعه المنعقد في آواخر شهر سبتمبر من العام المنصرم حزمة من القرارات لمعالجة تلك المعوقات التي ألقت بظلالها على الجداول الزمنية وتكلفة تنفيذ بعض المشاريع التنموية.
من بين تلك المعوقات تعد مشكلة نقص إمدادات مادة الأسمنت في السوق نسيجاً وحدها لما يترتب عليها من أضرار على المجتمع تفوق الجانب المالي الذي يتحمله المستهلكون بسبب ارتفاع الأسعار. إذ ستضطر الكثير من الأسر الجديدة وذوي الدخول المحدودة إلى الانتظار لفترات أطول مما هو مخطط له للحصول على مسكن, كما أن التأخير سيطول أيضاً مشاريع تعليمية, صحية, وغيرها من خدمات للمجتمع هو في أمس الحاجة إليها. والشواهد على ذلك يجدها القارئ في الصحف المحلية كالتقرير الذي عرضته " الاقتصادية " بتاريخ 17/4/2007م عن تعطل تنفيذ العديد من المشاريع الصحية في مدينة الرياض بسبب أزمة مواد البناء والأسمنت تحديداً.
هناك مؤشرات تدل على أن أزمة الأسمنت ستتفاقم وتزداد حدتها على خلاف ما يطرحه البعض من أنها أزمة موسمية وأن التوازن بين العرض والطلب سيتحقق قريباً. ولعل من أهم تلك المؤشرات حجم المشروعات التي أعلنت عنها الدولة ولم يبدأ العمل فيها بعد, ناهيك عن تلك التي لم يُعلن عنها, والتي ستشكل في مجموعها طلباً غير مسبوق على مادة الأسمنت يفوق طاقة المصانع القائمة وتوسعاتها المعتمدة. تلك الفجوة بين الطلب والعرض ستقود بلا شك إلى المزيد من الارتباك في قطاع البناء والقطاعات المرتبطة به من عقار ونقل وغيرهما.
اليوم تعمل الشركات المنتجة للأسمنت في المملكة وعددها ثمان بنسبة 100% من طاقتها التي تصل إلى حوالي (25) مليون طن سنوياً, وبالرغم من ذلك هناك عجز حاد في السوق أدى إلى ارتفاع أسعار الإسمنت بنسب تصل إلى 40% في بعض المناطق. أما التوسعات المعتمدة لتلك الشركات فتقدر بحوالي (11.6) مليون طن سنوياً, ومن المتوقع أن تستكمل بنهاية العام الحالي ( جريدة الحياة في 11/3/2007م). لكن ينبغي التذكير هنا بضرورة حجز جزء كبير من تلك الطاقة الجديدة كاحتياط للمصانع القائمة بحيث لا يتجاوز معدل تشغيلها النسب الاقتصادية المقبولة والتي عادة ما تكون في نطاق 70 إلى 80% من الطاقة الإسمية. إذ إن هناك مخاطر تجارية واستراتيجية في تشغيل أية منشأة بكامل طاقتها لفترات طويلة سواء كانت ميناءَ بحرياً, محطة لتوليد الكهرباء, أو مصنعاً للأسمنت.
لقد تصدت الدولة لأزمة الأسمنت منذ حوالي عامين بمجموعة من الخطوات كان من بينها الإسراع في تراخيص توسعة المصانع القائمة, وتشجيع استيراد الأسمنت من الخارج بتعليق الرسوم الجمركية وكذلك الرسوم المفروضة لحماية الإنتاج المحلي. إلا أن الدور الذي كان من المؤمل أن يضطلع به الأسمنت المستورد في سد العجز وكبح جماح الأسعار لم يتحقق, إذ لم يصل عبر الموانئ البحرية في المملكة سوى مليون وأربعمائة وخمسين ألف طن تقريباً في عام 2005م تراجعت بشكل طفيف إلى حوالي مليون وثلاثمائة وسبعين ألف طن في عام 2006م وهي كميات متواضعة بكل المقاييس. ولعل أحد الأسباب التي يمكن أن تفسر عدم إقبال السوق على استيراد الأسمنت من الخارج أن قرار تعليق الرسوم بشقيها حُددت مدته بسنة واحدة فقط قابلة للتجديد ما يشكل عائقاً أمام المستثمرين في إنفاق المبالغ اللازمة لبناء تجهيزات متخصصة في الموانئ لمناولة الأسمنت السائب والارتباط على كميات كبيرة لفترات طويلة تضمن للسوق إمدادات مستقرة بأسعار منافسة وهي تجربة سبق أن خاضتها المملكة بنجاح في الثمانينيات من القرن الميلادي المنصرم.
إن من حسن الحظ أن مشكلة الأسمنت قضية واضحة المعالم, كما أن الخيارات المتاحة لمعالجتها واضحة أيضاً لاسيما عندما تنطلق من رؤية شاملة تستهدف في النهاية خفض التكلفة التي يتحملها الاقتصاد الوطني بصرف النظر عما يتحمله كل طرف من أطراف المعادلة على حدة. وفي هذا السياق, قد تستحسن وزارة التجارة والصناعة ووزارة المالية المبادرة بالإعلان عن تمديد فترة تعليق الرسوم الجمركية ورسوم الحماية المفروضة على الأسمنت المستورد من سنة واحدة إلى عشر سنوات مثلاً لمنح المستثمرين فترة كافية لاسترداد استثماراتهم في بيئة عمل مستقرة. ومن المؤمل أن تغني تلك الخطوة عن تبني خطوات أخرى كتقديم دعم مالي لسلعة الأسمنت المستورد على غرار الشعير وهو ما طرحته " جريدة الاقتصادية " في كلمتها يوم الخميس الماضي.
إن أزمة الأسمنت موسمية كانت أم طويلة الأجل, ينبغي السيطرة عليها ومعالجتها بحلول دائمة تكفل مصالح جميع الأطراف وعلى رأسها المواطن.