توظيف التقنية لتنمية المناطق النائية
نشرت مجلة " فوربس Forbes " الأمريكية يوم أمس الإثنين (9/4/2007م) مقالاً يبُشّر بمنافع واسعة وآفاق واعدة يقدمها توظيف مبتكر لإحدى التقنيات في مجال الاتصالات يهدف إلى ربط القرى النائية الفقيرة في دول العالم الثالث بالمراكز الحضرية هناك. وما يميز تلك التقنية انخفاض تكلفة اقتنائها وتشغيلها، سهولة استخدامها، قلة استهلاكها للطاقة، وكفاية أدائها في نقل المعلومات والبيانات من صوت وصورة بسرعات عالية جداً. وبالرغم من أن التقنية الجديدة لم تزل تخضع للتطوير والإتقان في أحد معامل البحوث في جامعة "بيركلي" في ولاية كاليفورنيا، إلا أن هناك نماذج منها تمت تجربتها ميدانياً في بعض الدول كالهند، غانا، والفلبين.
ترتكز التقنية الجديدة على تقنية الاتصالات اللاسلكية التي تُعرف باسم "Wi - Fi" والتي لا بد أن الكثير من القراء قد ألف التعامل معها إذ شاع استخدامها في الآونة الأخيرة في الأماكن العامة كالمطارات، الفنادق، المكتبات، المجمعات التجارية ، وغيرها . إلا أن التقنية الجديدة دفعت بقدرات التقنية القائمة إلى مسافات تزيد مائة مرة تقريباً على ما هو متاح في الوقت الراهن، إذ أصبح من الممكن نقل حوالي 5 ملايين " بت bits " في الثانية لمسافة تصل إلى (100) كيلو متر بين مُرسلتين اثنتين باستخدام التقنية الجديدة التي أُطلق عليها اسم وايلدنت" Wildnet ".
لقد أثبتت تجربة التقنية الجديدة في إحدى القرى جنوب الهند المنافع التي يمكن أن تقدمها في تحسين مستوى المعيشة للطبقات الفقيرة في الأماكن النائية لاسيما في مجالات التعليم والخدمات الصحية. فعلى سبيل المثال بات متاحاً للمرضى هناك التواصل عبر تلك التقنية بالصوت والصورة مع المراكز الطبية في المدن لتشخيص حالاتهم ووصف الدواء اللازم بتكلفة زهيدة لا تقارن بما يدفعونه عادة والمشقة التي يتكبدونها عندما يضطرون للسفر بعيداً عن قراهم بحثاً عن علاج. وكذا الحال بالنسبة للتعليم ستجد الحكومات والمؤسسات الأخرى المعنية بذلك في التقنية الجديدة مخرجاً من المعضلة التقليدية التي تواجهها في توفير أعداد كافية من المعلمين المؤهلين الراغبين في العمل في المناطق النائية. بعبارة أخرى ستتوفر لتلك القرى نافذة واسعة تطل من خلالها على ما يدور في هذا الكون والإفادة من فرص وخدمات كانت لسنين طويلة حلماً صعب المنال.
هناك ملامح جانبية لطيفة في قصة التقنية الجديدة وايلدنت "Wildnet"، أولها أن رئيس فريق الباحثين لتطوير تلك التقنية في جامعة " بيركلي " الأستاذ في قسم علوم الحاسب الآلي يملك ثروة تقدر بمئات الملايين من الدولارات صنعها من بيع حصته في شركة متخصصة للبحث "search engine" في شبكة الإنترنت سبق وأن قام بتكوينها مع أحد تلاميذه. وبالرغم من تلك الثروة الهائلة التي حققها وهو لم يتخط الأربعين عاماً بعد، أرتأى ذلك الأستاذ أن يعود إلى مهنة التدريس والبحث العلمي براتب متواضع قائلاً "أنا لا أريد تغيير مجرى حياة عشرة أشخاص فحسب، ولكن أطمح في تغيير مجرى حياة ألف مليون شخص". ترى كم لدينا هناك في جامعاتنا من باحثين ومعلمين يمتلكون رؤية واسعة أو مهنية عالية كتلك التي يمتلكها ذلك الباحث؟
أما الملمح الآخر في تلك القصة فهو أن فريق الباحثين والمكون من أساتذة وطلبة دراسات عليا لا يقتصر على متخصصين في علوم الحاسب الآلي والهندسة الكهربائية فحسب، بل يشمل متخصصين في العلوم السياسية، تخطيط المدن، الطاقة، وغير ذلك من فروع الهندسة والعلوم ما يعكس التفاصيل الدقيقة التي يجد أولئك الباحثون لزاماً عليهم تمحيصها واستيفاءها قبل أن يضعوا لمساتهم الأخيرة على ما قد يكون بين أيديهم من تقنية أو منتج جديد. واللافت للنظر أيضاً في ذلك الفريق من الباحثين والبالغ عددهم حوالي (20) فرداً أنهم ينتمون إلى جنسيات وأعراق متعددة من بين شعوب هذه المعمورة.
إن المملكة العربية السعودية بما حباها الله تعالى من مساحات جغرافية شاسعة جدير بها متابعة تلك الأبحاث الجارية لتطوير التقنية الجديدة وايلدنت "Wildnet " والاهتمام بها للمنافع التي يمكن أن تجنيها في خدمة المناطق النائية وتعزيز الجهود التي تبذلها الدولة لتحسين مستوى المعيشة في الأطراف البعيدة عن التجمعات السكانية الكبرى. ومن حسن الحظ أن هناك أكثر من قناة متاحة للمملكة ملائمة لمتابعة تلك الأبحاث والمشاركة فيها، ولعل في مقدمة تلك القنوات جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية. إذ يمكن للجامعة المساهمة في تمويل تلك الأبحاث في إطار رؤية استراتيجية طويلة المدى سبق طرحها (الاقتصادية بتاريخ 23/1/2007م) تدعو لاستزراع برامج للبحث العلمي في بيئة حاضنة موثوقة إلى أن يحين الوقت الملائم لنقل تلك البرامج أو أجزاء منها تدريجياً من منبتها الأصلي إلى تربتها الجديدة بعد تجهيزها في جامعة الملك عبد الله.
أما القناة الأخرى الملائمة لمتابعة تلك الأبحاث فيمكن توفيرها من خلال شركة الاتصالات السعودية التي تمتلك الحكومة حصة تبلغ 70 في المائة من رأسمالها، إذ ستحقق مثل تلك المشاركة للشركة في تمويل تلك الأبحاث نقلة نوعية في الدور المطلوب منها في مجال البحث والتطوير بحسبانها شركة رائدة في مجال عملها على مستوى الشرق الأوسط.
إن مشاركة جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية وشركة الاتصالات السعودية (إن تحققت) في تمويل أبحاث تطوير تلك التقنية الجديدة للاتصالات ستكون منسجمة مع تركيبة الرعاة الحاليين ومن بينهم المؤسسة الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة الأمريكية "NSF"، معهد الهند للتقنية (IIT)، برنامج الأمم المتحدة للتنمية، وعدد من الشركات الأمريكية الكبرى في مجال تقنية الحاسب الآلي والمعلومات.