المدن الاقتصادية.. والمبتعثون
كتبت في "الاقتصادية" خلال العامين المنصرمين أكثر من مقال عن البرنامج الطموح الذي أطلقه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز لابتعاث أعداد كبيرة من الطلاب المتفوقين للدراسة في الخارج في تخصصات متنوعة تحتاجها السوق السعودية كالهندسة، التقنية، الطب، والعلوم. وأشرت في تلك المقالات إلى بعض الفوائد التي سيحققها ذلك البرنامج، بإذن الله، وعلى رأسها مد جسور للتبادل الحضاري والثقافي مع مراكز المعرفة في العالم الجديد، والأهم من ذلك بناء كوادر سعودية مؤهلة قادرة على العمل في بيئة يعتمد نجاحها على المنافسة مع أطراف متعددة في كل المستويات.
وفي هذا السياق سررت لما أوردته جريدة "الحياة" بتاريخ 13/3/2007م عن عزم وزارة التعليم العالي التنسيق مع عدد من الشركات الكبرى والبنوك والمؤسسات التعليمية الحكومية والخاصة لتعيين المبتعث السعودي في وظيفة مغرية قبل حصوله على درجته العلمية بقليل، وأن الوزارة شرعت فعلاً في إعداد قاعدة بيانات لجميع المبتعثين السعوديين تشمل معلومات عن تخصصاتهم، أسماء الجامعات التي يدرسون فيها، وغيرها.. إذ تشكل تلك الخطوة مبادرة غير مسبوقة في برامج الابتعاث في المملكة تمليها من جهة الظروف الصعبة التي تعتري سوق العمل في الوقت الراهن، ومن جهة أخرى القيمة المضافة الكبيرة التي يمكن أن يقدمها أولئك المبتعثون لوطنهم.
لا شك في أن تلك الخطوة التي أقدمت عليها الوزارة لا تقل أهمية عن برنامج الابتعاث ذاته، كما أنها تشكل تحدياً جديداً لها خارج إطار مسؤولياتها الأساس. ومما يسهم في صعوبة الخطوة وتعقيدها غياب قاعدة معلومات جيدة عن سوق العمل في المملكة يمكن الارتكاز عليها في رسم استراتيجية فاعلة لتوظيف المبتعثين، لاسيما أن الحديث هنا عن أعداد كبيرة قد تزيد على (15.000) مبتعث في تخصصات دقيقة تختلف كثيراً عن التصنيفات التي اعتادت السوق عليها للوظائف الهندسية، الإدارية، أو المالية. إذ أصبحت التخصصات اليوم في الدراسات العليا على درجة مُركّبة من التركيز وإن جاءت تحت مسميات عريضة كالهندسة المالية " Financial Engineering"، خلايا توليد الطاقة (Fuel Cells)، أو الاتصالات اللاسلكية ذات النطاق العريض، وغيرها.
هناك رؤية أخرى قد تكون أكثر مواءمة ونجاعة للتعامل مع ملف توظيف المبتعثين. تلك الرؤية تنشد استثمار مؤهلات وقدرات المبتعثين لدعم جهود الدولة في جذب استثمارات أجنبية ذات محتوى عال من التقنية والمعرفة ضمن برامج تسويق المدن الاقتصادية. وما يدعم جدية تلك الرؤية التكلفة التي خصصتها المملكة لتمويل برنامج الابتعاث وتقدر بأكثر من (10) مليار ريال، وهو مبلغ يشكل إعانة سخية غير مباشرة للمشروعات التي ستظفر بأولئك المبتعثين واحتضانهم.
ومن ثم فإن إبراز وتسليط الضوء على مخرجات برنامج الابتعاث ضمن الحوافز التي تُعرض على المستثمرين ينبغي أن يُعطي أهمية خاصة إذ سيساهم ذلك في تبديد مخاوف البعض من الاستثمار في المملكة بحجة ندرة العناصر المؤهلة، كما أنه سيساهم في ترجيح كفة السوق السعودية عند مقارنة الفرص بينها وبين الأسواق المجاورة.
إن طرح ملف توظيف المبتعثين ضمن منظومة تسويق استثمارات المدن الاقتصادية سيحقق بإذن الله منافع مشتركة لكل من تلك المدن وبرنامج الابتعاث. لكن الوصول إلى ذلك الهدف يتطلب جهداً مؤسسياً من الهيئة العامة للاستثمار ووزارة التعليم العالي وربما جهات أخرى، لا يقف عند مرحلة إعداد البيانات والإعلانات فحسب بل يتجاوز ذلك كما يتجاوز الأدوار التقليدية لمكاتب التوظيف.