ملكنا الثروة فهل حققنا الأهداف؟

استكمالا لما استعرضته خلال المقالين السابقين حول الثروة التي أفاء الله بها على هذه البلاد خلال العقود الماضية، والقفزات التنموية التي صاحبتها في مختلف المجالات، وما تشهده المملكة حاليا من تدفق هائل للثروة تمنيت أن نتدبر كيفية الاستفادة منه، واستثماره لتلمس ما فاتنا، واستدراك ما ينقصنا، والتفكير في مستقبل أجيالنا والتحوط لتقلبات الأحوال، وما قد تخبئه الظروف والأحداث في القابل من السنين.
وعند التأمل فيما حققناه وما وصلنا إليه نشعر أنه ينبغي علينا أولا شكر الخالق على ما حبانا به من نعمة، جعلتنا محط الغبطة، ولا أقول الحسد، من كثير من شعوب الأرض، التي تتوق إلى معانقة أرض المملكة، قداسة وإقامة ومعاشا، ثم علينا استعراض ما فاتنا مما لم نستطع تحقيقه، أو غفلنا عنه، في زحمة الاندفاع والتسارع إلى البناء، أو ما أحدثه البناء من ردود فعل وانعكاسات سلبية في بعض شؤوننا، ومجالات حياتنا، أثرت في اكتمال البناء، وتكامل أركانه، واستفادة الكل منه، وهو ما أضحى ماثلا أمامنا.
ودون إسهاب في التقديم، أقول إن هناك مجالات تنموية كثيرة حظيت بالجزء الأكبر من الثروة، وخصص لها ما لم يُخصص لغيرها من الأموال، واختصتها الدولة بأولويات اهتماماتها، ودعمها ومؤازرتها، وذلك لاتصالها بحياة المواطن، ومعاشه وتعليمه وأمنه، ومع ذلك فما زالت المستويات التي وصلت إليها قاصرة عن بلوغ الأهداف التي رسمت لها، بل إن شكوى المواطن منها تزداد مع ازدياد الدعم الذي تلقاه، وما زالت التساؤلات تترى عن سر القصور الذي تعانيه، بالرغم مما كانت تنعم به من إغداق في الإنفاق.
فها هو قطاع التعليم، وهو الأهم في حياة المواطن والأمة، قد حظي بما لم يحظ به قطاع آخر، من التخطيط والسياسات، والاعتمادات، ومع ذلك لا يزال يئن من كثرة ما يعانيه، وما ينسب إليه من خلل وقصور وانحراف عن الأهداف، ابتداء من المباني التي انتهى عصر الطفرة الأول، ويكاد العصر الثاني أن ينتهي دون أن نمتلك ولو نصفها، وكأن مسيرة التعليم ستتوقف، أو نستغني عن المبنى! ومرورا بالمعلم الذي فقد الحماس والإخلاص، وأصبح هاجسه الأول هو الخوف من الطالب على حياته وممتلكاته ولا أدل على ذلك مما يثار الآن من تفكير في العودة إلى نقطة الصفر في بناء المعلم وإعداده وتأهيله! وإن نحن أتينا إلى المنهج نجد أننا اكتشفنا متأخرين أنه كان يركز على الحشو دون الفهم، وعلى الكم دون الكيف، والتلقين دون التحصين، إلى أن علقنا عليه ما أصاب الأمة من خلل فكري وإجهاد أمني، ورغم ذلك ما زلنا نقدم رجلا ونؤخر أخرى في إصلاحه.
أما البطالة التي تملأ البلاد طولا وعرضا فما زلنا مختلفين حول أسبابها، ومن المسؤول عنها، وكل يدفع التهمة عنه، إذ تدعي الجهة المسؤولة عن التوظيف أنها نتاج مخرجات تعليمية لم تراع الحاجة، حتى لو كان الادعاء هروبا من المواجهة ومؤسسات التعليم تدفع بأنها تعلّم لطرد شبح الأمية، بصرف النظر عن المستوى ومصير الخريجين، وهكذا ظللنا نتحاور لتمضية الوقت وإبعاد التهم، في انتظار مبادرة تنقذ الوضع، مثل مشروع خادم الحرمين الشريفين، المعلن أخيرا، والذي سيكلف الخزانة قرابة عشرة مليارات ريال، وكأن السبب في العجز هو العوز المادي.
وها هي الخدمات الصحية, رغم استئثارها بجزء كبير من الثروة على طول سنوات الطفرة وما بعدها, لم تبلغ الحد الأدنى من الرضى, بل إن الشكوى منها تزداد من طول المواعيد لرؤية الطبيب ونقص التخصصات والأجهزة والمعدات وشح الأدوية, ولا يجد المواطن مخرجا غير اللجوء إلى مرافق العلاج الأهلية رغم ما يلقاه من استغلال لا يملك معه اعتراضا, لتعلق الأمر بصحته وأسرته.
هذا فضلا عن مطالب المواطنين وشكواهم من عدم وصول الخدمات الصحية إلى أجزاء كثيرة من المملكة, بل إن الملاحظ أن رحلات المواطنين إلى الخارج للعلاج تزداد مع مرور الوقت! ومع ازدياد توجهنا إلى البلدان الضعيفة لجلب الأطباء منها.
أما إذا التفتنا إلى الخدمات والمرافق الأخرى المتصلة بحياة المواطن, فإننا سنرى القصور ماثلا في كل اتجاه بدءا من خدمات الصرف الصحي التي لم تغط سوى جزء يسير من مساحات المدن, أما المحافظات والقرى فليس هناك تفكير أبدا في وصولها إليها, رغم أهميتها للصحة العامة, والبيئة والبنية التحتية. ومثله خدمات المياه, التي يتسبب نقصها وسوء توزيعها في نشوء تعاملات مشبوهة, ناهيك عن رواج تجارة الصهاريج التي تختنق بها المدن. أما الكهرباء فرغم أن القطاع الخاص يتولاها في شكل شركة مساهمة كبيرة, حظيت بالدعم والتسهيلات والقروض الميسرة, فضلا عن التسعيرة المغالى فيها, إلا أن الأسف يعتصرك عندما تقرأ خبر تبرع البعض بمولد كهربائي لقرية من القرى, وكأننا نعيش في مجاهل إفريقيا وليس في المملكة التي تقف في مقدمة الدول الأغنى.
أكتفي بهذا لكي أدلل على أن القطاعات التي أشرت إليها هي أكثر القطاعات التصاقا بحياة المواطن وأكثرها أهمية له, لأنها تمثل الحاجات الأربع الرئيسة, وهي: التعليم, الصحة, الماء, والكهرباء, وكانت هي الأكثر استقطابا لاهتمام الدولة والأكثر استئثارا بالاعتمادات والأموال, ومع ذلك فلا تزال هي الأكثر مشكلات ومعاناة للمواطن, ولم تبلغ حد الرضى لديه, أو حتى لدى المسؤولين عنها.
إذاً ما العلة؟ وأين تكمن المشكلة؟ وهل ننتظر مبادرات إنقاذ أخرى؟ دون مراجعة ومحاولات التعرف على الأسباب وتقويم الوضع, وما حققناه مقارنة بما أنفقناه؟ حتى نتعرف على الخلل ونقف على مواطن الزلل لكي نستفيد من الخطأ في تقويم ما اعوج وإصلاح ما فسد؟
على أنه يحسن التذكير بأن هناك شبه تأكيد على أن تغييبنا مبدأ المحاسبة والمتابعة ومراجعة الخطط وقياس النتائج ومعاقبة المقصر, يأتي في مقدمة أسباب ما نشكو منه, إضافة إلى أن جزءا كبيرا مما كان يوفر من أموال يذهب إلى الرواتب وما في حكمها, والنفقات الاستهلاكية المتكررة, وهي كثيرة.
والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي