النساء قادمات!
في ليلة دعاني إليها أخي الشيخ إبراهيم السبيعي في منزله العامر في جدة يوم الأحد الماضي تكريما واحتفاء بشيخ التجار الأستاذ وهيب بن زقر. حدثنا الشيخ وهيب بأسلوبه المعهود الذي يمزجه بروحه المرحة وشخصيته الرقيقة وخبرته الواسعة عن المشاكل والصعوبات التي تواجه سيدات الأعمال في مجتمعنا. جاء حديثه بمناسبة المنتدى الذي كان سيعقد في اليومين التاليين برعاية صاحبة السمو الملكي الأميرة عادلة بنت عبد الله بن عبد العزيز، وبترتيب من مركز السيدة خديجة بنت خويلد لسيدات الأعمال. ومن حسن الطالع أن أخي الفاضل الشيخ أحمد حسن فتيحي كان قد تلطف بدعوتي للمشاركة في هذا المنتدى الذي يهدف للوصول إلى نموذج وطني عربي إسلامي للمرأة الواعية والملتزمة بأداء دورها محليا وعالميا ودعم مشاركتها في مسيرة التنمية الوطنية.
عقد المنتدى تحت عنوان "واقعية مشاركة المرأة في التنمية الوطنية"، أُلقيت فيه محاضرات قيمة غلب عليها الطابع العلمي المعتمد على الحقائق والإحصاءات، بعيدا عن التعميم أو الانطباعات. وقد استهلت راعية المنتدى سمو الأميرة عادلة المتحدثات بكلمة ضافية بليغة: لغة وأسلوبا وإلقاء ومحتوى، عددت فيها بعضا من الحقائق المتعلقة بالإناث في مجتمعنا. حقائق كشفت بلغة الأرقام أن للنساء قوة اقتصادية لا يستهان بها. فمن هذه الحقائق المذهلة التي ذكرتها سموها أن ربع سكان البلاد يتولون الإنفاق على بقية ثلاثة أرباع السكان! وأن حجم البطالة النسوية هو ما بين 25 و28 في المائة. وأن نحو 5.5 في المائة فقط من حجم قوة العمل النسوي يعملن!
تأتي هذه المؤشرات المتواضعة في حين تبين الإحصاءات أن القوة الاقتصادية النسوية، سواء المادية منها أو البشرية يمكن أن تساهم بفاعلية أكثر في تنمية اقتصادنا. فالنساء يحزن نحو 10 في المائة من الملكية العقارية، ويملكن نحو 30 في المائة من الحسابات المصرفية، ونحو 40 في المائة من الشركات العائلية، كما تملك النساء نحو 45 مليار ريال من السيولة النقدية في المصارف، لكن أكثرها معطل فنحو 75 في المائة منها لا تجد طريقها نحو دورة النشاط الاقتصادي. فيما بلغ حجم استثماراتهن نحو ثمانية مليارات ريال، وهو ما يشكل نسبة 21 في المائة من حجم الاستثمارات الكلية.
ونبهني أخي الأستاذ خالد المعينا رئيس تحرير جريدة "عرب نيوز"، صبيحة يوم المنتدى، للملحق الخاص الموسّع عن المرأة السعودية الذي نشر بمناسبة المنتدى. حيث تضمن هذا الملحق دراسة قيمة وإحصاءات ذات دلالة عن النشاط الاقتصادي لعدد من سيدات الأعمال السعوديات. أُعدت هذه الدراسة بالتعاون مع مركز السيدة خديجة بنت خويلد لسيدات الأعمال، ونشرتها جريدته تزامنا مع المنتدى. بينت هذه الدراسة أن النساء يملكن نحو 1500 شركة، ونحو 5500 سجل تجاري، تشكل نحو 4 في المائة من مجمل عدد السجلات التجارية في البلاد، لكنها تمثل 20 في المائة من مجمل نشاط تجارة التجزئة والجملة والمقاولات والصناعات التحويلية.
ومع ذلك فإن سيدات الأعمال يواجهن عددا من الصعوبات التي تحول دون استفادة المجتمع من نشاطهن ومواردهن. فمع أن الإجراءات الإدارية للرخص التجارية متماثلة بين الذكور والإناث، إلا أن كثيرا منهن يواجهن صعوبات عملية في إنهاء هذه الإجراءات أو في إدارة أنشطتهن لاحقا. والواقع أن كثيرا من هذه العقبات الإدارية والتنظيمية تعود للعادات والتقاليد وليس لموانع شرعية. إن تذليل هذه العقبات سيعمل على تفعيل الاستفادة من هذه الموارد بكفاءة أكثر ليزيد من نسبة مساهمة هذه الموارد النسوية في تكوين الدخل الوطني وزيادة حجم الاستثمارات وتوليد فرص العمل لهن.
لا ينبغي أن تتعطل مساهمة المرأة في مسيرة تنمية مجتمعنا لمجرد كونها امرأة. من خلال تجربتي في التدريس لاحظت أن الطالبات أكثر جدية وتحصيلا واجتهادا في المتوسط من الطلاب. ولذلك ليس غريبا أيضا أن يصبحن أكثر انضباطا وجدية والتزاما من الذكور إذا انخرطن في سوق العمل. يؤكد أخي الدكتور وليد فتيحي هذه الظاهرة ويقول إنه كان من الأسهل عليهم، عند تأسيس مركزه الطبي، أن يجدوا في سوق العمل المحلي كفاءات نسوية تتسم بالذكاء والالتزام والجدية من أن يجدوها بين الذكور. هذه حقائق تستحق منا أن نخضعها للتأمل والدراسة، شأنها شأن بعض الظواهر الاقتصادية الغريبة في مجتمعنا التي تمثل هدرا عجيبا للموارد، وغيابا صارخا لكل معاني السياسات الاقتصادية القائمة على استخدام الحوافز(دون التدخل المباشر) من أجل توجيه نشاط الناس ومواردهم نحو الاستخدامات الأكثر فائدة وكفاءة لاقتصادنا. تأمل رعاك الله على سبيل المثال ظاهرة انتشار مجمعات التسوّق التجارية في مدينة جدة، إنها تتكاثر بشكل عجيب حتى أصبحنا نرى بين كل مركز وآخر مركزا ثالثا وربما رابعا وخامسا!! إنه عالم المال الطفيلي في أيدي عقول طفيلية تعمل في بيئة ومظلة تنظيمية طفيلية!!
هذه الموارد والطاقات والأموال كان يمكن أن توجه لمشاريع تعليمية أو طبية أو خدمية أو صناعية تشتد حاجة العباد والبلاد إليها. لكنها تنحرف هذا الانحراف الضار، إما لأن عوائد هذه المشاريع أقل من تلك المراكز التسويقية، أو لأنها مشاريع أكثر تعقيدا من الناحية التخطيطية والإنشائية والإدارية ما يتطلب جهدا مضاعفا. ومع أن هناك نخبا من رجال الأعمال الوطنيين الراغبين في تحمل هذه المخاطر الإضافية، إلا أن غياب أي نوع من سياسات الحوافز الاقتصادية وتخلف الأنظمة والترتيبات الإدارية، تدفعهم مرغمين لتبني المشاريع الأسهل.
إن تحديات النمو السكاني ومهمة تنويع مصادر الدخل وحاجتنا إلى زيادة الاستثمارات المولدة لفرص العمل، تحتم علينا أن نندفع قدما نحو التغيير والتطوير، وأن لا نقف عند مجرد الحديث عن هذه الظواهر، بل علينا تعديلها وتوجيه مواردنا نحو الأنشطة المنتجة من خلال سياسات وحوافز مناسبة تخدم أهدافنا الاقتصادية في ظل الضوابط الشرعية الحقيقية المتفق عليها. إن تأخير التصدي للعقبات الإدارية والتنظيمية التي تقف حائلا دون توسع ونمو نشاطنا الاقتصادي، يزيد من صعوبة حلها مستقبلا.