عواصف الجهل .. وأسعار النفط
الخبراء والمحللون
تتعامل شركة بلوومبرغ مع أكثر من 40 خبيراً ومحللاً نفطياً بشكل أسبوعي منذ عدة سنوات. تشير بيانات الشركة إلى أن توقعات هؤلاء الخبراء كانت صحيحة نحو 50 في المائة فقط. ماذا تعني هذه النتيجة؟ إذا جاء شخص جاهل وقرر رمي عملة معدنية على الأرض لتحديد اتجاه أسعار النفط فإن نسبة صحة توقعاته مماثلة لنسبة صحة توقعات الخبراء!
المنظمات الدولية والحكومية
تقوم وكالة الطاقة الدولية و"أوبك" ووزارة الطاقة الأمريكية بتقديم توقعات لمعروض النفط والطلب عليه. لقد أثبت التاريخ أن هذه التوقعات ليست خاطئة فقط، وإنما خاطئة حتى بعد أن تم تعديلها أكثر من ثلاث مرات أحياناً. المشكلة أن الأمور أصبحت أكثر سوءاً من قبل لأن دراسات وتصريحات بعض هذه المنظمات بدأت تنحى منحى سياساً خطيراً، وبدأت تؤثر في أسواق النفط العالمية، الأمر الذي زاد من تقلب هذه الأسواق وضبابيتها، وزاد من جهل التجار والمحللين باتجاهات أسعار النفط.
الصحافيون
أغلب الصحافيين غير متخصصين ويعملون في مجالات شتى. لذلك يقع الصحافيون في أخطاء كثيرة عند الكتابة عن المواضيع المتعلقة بالنفط والطاقة، كما يقومون أحياناً بتقديم أسئلة خاطئة، بل مضحكة أحياناً، للمسؤولين والمتخصصين. هؤلاء هم الذين ينقلون المعلومات المتخصصة في النفط إلى الجماهير في أنحاء العالم كافة!.
المشكلة في عاملنا العربي أكثر سوءاً بسبب اعتماد البعض على الترجمة من اللغة الإنجليزية، والترجمة الحرفية في كثير من الأحيان. نظراً لأنه حتى الصحافيين الذين يدعون الاختصاص غير متعمقين في مجالات النفط، فإنهم يقومون أحياناً بالنقل من مصادر غير موثوقة على الإنترنت، أو يعتمدون على جهات معادية للعرب، أو ينقلون عن شخصيات لا وزن لها، أو ينقلون مواضيع غير مقبولة وتم نقدها من كبار المتخصصين. لذلك فإننا ندفع ثمن جهل الصحافيين بمواضيع النفط!
الأكاديميون
نشر أحد الأكاديميين المتخصصين في مجال التمويل بحثاً عن العلاقة بين الأسعار الفورية والمستقبلية في بورصة نيويورك. بعد ذلك اكتشف أنه يمكن تطبيق نفس الفكرة على أي سلعة، بما في ذلك النفط. كل ما هنالك أنه قام باستخدام نفس النموذج الرياضي وأدخل بيانات أسعار النفط في برنامج الحاسوب، وقام بنشر البحث مدعياً أنه خبير في مجال النفط. هذا النوع من البحوث انتشر بشكل كبير في الفترة الأخيرة، وطبعاً، كثر معه الخبراء! بعبارة أخرى، يمكن لهؤلاء الأكاديميين أن يكونو خبراء نحاس أو تفاح لأن كل ماعليهم هو استبدال بيانات النفط على أجهزة الحاسوب ببيانات النحاس أو التفاح! الأخطاء في هذا المجال فادحة أحياناً لدرجة أن عدداً من هؤلاء توقعوا انهيار "أوبك" أكثر من مرة في الماضي، في وقت توقع فيه آخرون زيادة قوتها مع ارتفاع أسعار النفط إلى 200 دولار للبرميل. وفي الوقت الذي ركز فيه بعض المتخصصين بالتمويل في بحوثهم على كيفية تحكم "أوبك" في أسعار النفط عن طريق النطاق السعري، قررت "أوبك" وقف التعامل به لعدم جدواه. ويكفي دليلاً على عدم اختصاصية أغلب الأكاديميين أنه تم خلال السنوات الخمس الماضية نشر 14 كتاباً عن النفط والطاقة، لم يكن بين كتابها 19 إلا اثنان من المتخصصين في جيولوجيا النفط وقضيا حياتهما يعملان مع شركات نفطية عالمية. الباقي لا علاقة لهم بصناعة النفط من قريب أو بعيد.
ولكن حتى المتخصصين وقعوا في مآزق عدة. فقد قام مركز أبحاث خليجي بنشر بحث لخبير بريطاني قدمه في بداية عام 1999، يتوقع فيه وصول أسعار النفط إلى أقل من عشرة دولارات للبرميل في عام 2000، علماً أن الأسعار تجاوزت 30 دولاراً للبرميل في ذلك العام. المشكلة أصبحت أكبر من خطأ في التوقع لأن المركز نشر المقال في بداية عام 2001!.
النتيجة
في هذا الجو المليء بعواصف الجهل، علينا ألا نستغرب خطأ التوقعات، وحيرة المسؤولين في الدول المنتجة للنفط. من هذا المنطلق، فإن قرار "أوبك" بالمحافظة على إنتاجها في الوقت الذي أعطت رئيس "أوبك" الصلاحية للدعوة لاجتماع غير عادي في حزيران (يونيو) المقبل إذا حصلت تطورات جديدة في أسواق النفط تتطلب تغيير الإنتاج. يمكن ترجمة تصرف "أوبك" على أن "أوبك" محتارة. الواقع أن الوضع الحالي محير، وما زاد الأمور سوءاً أن هذه الحيرة أدت إلى تعارض الآراء والتوقعات. تأتي هذه النتيجة إضافة إلى الحيرة والتناقض اللذين يميزان أسواق النفط، كما هو مبين أعلاه.
ما اتجاهات أسعار النفط خلال الشهور المقبلة؟ نتيجة لما سبق، فإن هناك رأيين متعاكسين. هل ستستمر أسعار النفط في الارتفاع في العام المقبل؟ هناك رأيان متعاكسان! هل ستقوم "أوبك" برفع طاقتها الإنتاجية خلال الفترة نفسها؟ هناك رأيان متعاكسان! هل تستطيع دول خارج "أوبك" زيادة إنتاجها بشكل يتلاءم مع التوقعات الحالية، هناك رأيان متعاكسان!.
ما هو المؤكد إذاً؟
رغم كل ماذكر سابقاً إلا أن هناك بعض الثوابت التي يمكن الاعتماد عليها. فأسعار النفط يمكن أن تنخفض قليلاً خلال الأسابيع المقبلة بسبب انخفاض الطلب العالمي على النفط في فصل الربيع. ثم ستعاود الارتفاع مع بداية الصيف بسبب موسم السفر في أمريكا الشمالية. ولكن هل سترتفع أسعار النفط إلى مستويات قياسية ولفترة عدة أسابيع؟ ممكن بشروط منها أن تعاني منطقة خليج المكسيك من أعاصير مماثلة لإعصاري كاترينا وريتا في صيف 2005 في وقت تتوقف فيه إمدادات دولة نفطية مثل إيران أو نيجيريا أو فنزويلا.
ولكن ماذا بعد ذلك؟ العامل الأساسي الذي سيحدد أسعار النفط خلال العامين المقبلين هو الاقتصاد الأمريكي. سيعاني الاقتصاد الأمريكي الكساد بعد سحب الحكومة الأمريكية جزءا كبيرا من قواتها من العراق. وسينتج عن ذلك انخفاض أسعار النفط. يعتمد مقدار وفترة الانخفاض على مدى تأثر الاقتصاد الصيني بالاقتصاد الأمريكي. فإذا أصيب الاقتصاد الصيني بعدوى الكساد، فإن أسعار النفط ستنخفض بشكل كبير.
قبل أن يستنتج البعض من الجمل السابقة أنه من صالح الحكومة الأمريكية الاستمرار في احتلال العراق لمنع حصول الكساد، عليهم أن يدركوا أن إطالة الحرب في العراق ستؤدي إلى الكساد أيضاً، تماماً كما حدث في الولايات المتحدة في الفترات الأخيرة من حرب فيتنام.