ما الذي نحتاج إليه لتدبير هذا التدفق الهائل للثروة؟

تحدثت في مقال الأسبوع الماضي عما كنا فيه من حال قبل اكتشاف ثروة البترول, أو حتى بعد ذلك, عندما يطرأ للغرب التحكم في أسعار البترول لكي ينعم به هو أكثر من منتجيه. وطرحت رؤيتي المتلخصة في الدعوة إلى الجمع بين التوازن, والاتزان, والانضباط في الإنفاق, والحد من الاندفاع في إقامة المشاريع, لما يورثه ذلك من ارتفاع في تكلفتها, وتجاوزات أثناء تنفيذها, واليوم أستكمل بيان رؤيتي المتواضعة فيما أتمنى أن يسير عليه الوضع حاضرا ومستقبلا.
لقد كان من أبرز سمات التدفق الهائل للثروة أن تضخم الجهاز الإداري للدولة, بما تم إنشاؤه من هيئات ومؤسسات وإدارات كثيرة خلال العقد الأخير, وبما تم ويتم إحداثه سنويا من وظائف ضمن ميزانيات الجهات القائمة, وما ترتب على هذا من زيادة متلاحقة فيما يخصص في ميزانية الدولة من نفقات إدارية, للرواتب والبدلات والمكافآت وما في حكمها, وأصبح هذا النوع من الإنفاق الاستهلاكي يستحوذ على الجزء الأكبر من الميزانية على ضخامتها, ومن المعلوم أن هذه الحقوق تكتسب الصفة النظامية بمجرد نشوئها, وأن من غير الممكن تخفيضها فيما لو انحسر الدخل العام, وتبقى فقط إمكانية زيادة نسبتها إلى الحجم العام للميزانية! وسيكون ذلك على حساب أوجه الإنفاق التنموية الأخرى, كالمشاريع الجديدة والقروض الإنمائية, وإذا حصل ذلك, وهو أمر متوقع في المستقبل, فسيؤدي إلى تراجع نسبة النمو الاقتصادي, وبروز ما يترتب على ذلك عادة من مشكلات.
ولن يكون من المصلحة زيادة حجم الميزانية كلما زاد الدخل, لما يترتب على ذلك من صعوبة العودة عن هذا التوجه, فيما لو انخفض الدخل, لأي سبب, وهو أمر محتمل, كما أشرت, طالما بقينا نعتمد على مصدر رئيس للدخل وهو البترول. ولا بد من استعمال الحكمة في تدبير الأمور, ومن ذلك تحديد سقف معين للإنفاق الحكومي, يمكن للاقتصاد امتصاصه واستيعابه, دون إحداث ردات فعل سلبية عنيفة, تنعكس على تكاليف معيشة المواطن, وهو ما بدأت آثاره تظهر في الوقت الحاضر.
ولعلي أذكر في هذا الصدد بما حدث عندما قفزت إيرادات الدولة عام 1400/1401هـ إلى 348 مليار ريال, وقفزت بالتالي المصروفات إلى 285 مليارا. وما تبع ذلك من ارتفاع في تكاليف الحياة وفي هامش التضخم, وصلت بسببه أسعار السلع والمنازل وإيجاراتها إلى حدود غير معقولة, ثم عندما انخفض الدخل إلى 76 مليارا, بعد ذلك بخمس سنوات فقط, أي في عام 1406/1407هـ, اضطررنا تحت ضغط الظروف إلى تحجيم الإنفاق إلى 137 مليارا في العام نفسه, وهو ما اضطرنا إلى تمويل العجز ومقداره 61 مليارا من الاحتياطي النقدي للميزانية, عندما كنا نملك ذلك الاحتياطي, أما الآن فليس أمامنا, لو حصل العجز, غير الدين العام نزيده أرقاما, بعد أن كنا نحاول خفضه والوصول به إلى نقطة الصفر, وهو وضع لا نريد العودة إليه مهما كانت الظروف.
وعلينا أن نتذكر كذلك أن تدفق الدخل بالمعدل نفسه الذي حققه خلال السنتين الأخيرتين, والارتفاع الذي صاحب ذلك في فوائض الميزانية, ليس مضمونا أن يستمر بالمعدل نفسه, أو حتى قريبا منه, تأسيسا على ما حصل في الماضي, من تأثر هذا الدخل بعوامل كثيرة لا نستطيع التحكم فيها. وها هي أسعار البترول تشهد تأرجحا يتجه إلى الانخفاض منذ بداية العام الميلادي الحالي, وبما أن إيرادات العام الحالي (2007) قدرت بمبلغ 400 مليار وحجم النفقات بمبلغ 380 مليارا, وفي ظل الهبوط المتدرج لأسعار البترول, فإن فائض الإيرادات يقدر ألا يتجاوز 20 مليارا, بعد أن كان هذا الفائض يتخطى مئات المليارات, وهو الأمر الذي قصدته, وينبغي التنبه له مستقبلا, حتى لا يأخذنا التفاؤل إلى حدود الاستغراق في الأحلام, التي قد تصطدم بريح الواقع, التي قد لا تأتي بما تشتهيه سفننا.
ويحسن الإشارة هنا إلى أن البعض يتجاوز الواقع عندما ينظر إلى الدخل من زاوية حجم الإنتاج والسعر المعلن للبترول فقط, ضمن حديث المجالس, ويقوم بضرب الرقمين في بعضهما مستنتجا الدخل اليومي أو السنوي, أي (10 ملايين برميل × 60 دولارا × 30 يوما × 12 شهرا) ليخرج برقم مهول يقف أمامه متسائلا: كيف يحصل العجز في وجود دخل كهذا؟ وهو تساؤل كثيرا ما يثيره بعض النخب, وليس العامة فحسب. ويظن أن هذا هو الدخل, متناسيا عوامل كثيرة تؤثر في المعادلة, منها: تكاليف الإنتاج, ومنها أن الأسعار المعلنة هي لسلة نماذج معيارية من البترول, وأن إنتاج المملكة تغلب عليه أنواع تصنف باسم العربي الثقيل, وهي من أقل الأنواع سعرا, لانخفاض مكونات ما يستخرج منها.
أقول قولي هذا وأنا على بصيرة مما أقول, وتأكلني الغيرة أحيانا على الوضع, وأنا أرى علامات الإسراف في الإنفاق الحكومي بادية في كل مجال, من أصغرها, كحفلات الغداء والعشاء التي نبذخ في إعدادها لمائة شخص, ولا يجلس عليها أكثر من 20 أو 30. وما يرافقها من مبالغة في إغداق الهدايا والإسكان في أغلى مكان, على الضيوف, حتى لو لم نحصل على شيء عندما نذهب إليهم. مرورا بإساءة استخدام المرافق والأموال العامة, واستغلالها للمصالح الشخصية كالسيارات والطائرات والسكن والانتداب والأعمال الإضافية والأثاث, وانتهاء بالكبير منها كالمشاريع التي تكلف لدينا أضعاف ما تكلفه لدى غيرنا, ناهيك عن تكاليف صيانتها لسرعة ظهور العيوب الفنية التي تعزى إلى رداءة التنفيذ وسرعته.
وفضلا عن التأني والتدبر وحسن التدبير, التي دعوت إليها, فإن ما يصلح الوضع ويقويه ويسهم في سد الخروق التي يتسرب منها المال العام, هو الالتفات إلى الاهتمام بالرقابة والمتابعة, وتقوية عناصرها وأجهزتها سواء كانت داخلية كالتي تتبع الجهات التنفيذية ذاتها, أو خارجية كالرقابة المستقلة بشقيها السابقة واللاحقة, إلى جانب الإسراع في تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد التي يلمس المواطن أنها صيغت بمنتهى الإحساس بالوطنية والإخلاص, والتي سيتوجها, بلا شك, إصدار النظام المنصوص عليه فيها لحماية المال العام وإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي