(تـَرابْ الـْعَيشْ عَيْـش)

[email protected]

مجتمعياً نعيش مستويات متفاوتة من التقدم الاجتماعي وبعضها تراكمي فوق بعض من الازدهار الاقتصادي. مظاهر التفاوت واضحة بين طبقات المجتمع وعلى كثير من الأصعدة والمستويات، لامتداد المساحة الجغرافية، والمقتنيات المعيشية لضروريات الحياة ورفاهية العيش من الماديات والأفكار المتطورة لمكاسب داخلية معرفية، وتأثيرات خارجية علمية، وفراغات وموروثات عقائدية. تفاوت الفكر الثقافي الذي نعيشه لنصف قرن من التنوير العلمي ينعكس في اختلافات وجهات النظر حول أمور تـُشتت فكرنا وتبعدنا عن بدايات قناعات سلامة تلاقي الحضارات، وفلسفات مسيرة طلب العلم والمعرفة في الداخل والخارج، والسعي الجاد للعمل المنتج، والتعاون المجتمعي على طريق التكافل الأسري والتوفيق لذات البين. تفاوت قفزات التغيرات المادية المصاحبة لارتفاعات "الهبة الربانية" غيَّرت معالم تركيبة الثراء المجتمعي للمناطق والطبقات والأفراد. تحسين مظاهر فروقات المستويات المعيشية يترتب عليه تباعد التعاطيات والسلوكيات، يقوِّيه التفاوت الثقافي الذي كلما ابتعد عن تعظيم التوجهات الفكرية السليمة والأعمال الصالحة المنتجة ليفقد الوطن مقداراً من ثقافة تقوية بنيته. إشاعة قدر من الشطط الفكري محلياً يعطي إفرازات تولد غباراً خانقاً على أفكار سوية في طريق النماء الاجتماعي والازدهار الاقتصادي. انقسام الفكر الثقافي محلياً لتوجهات متضاربة وأفكار متصارعة، لا يخدم البحث خلف تعظيم الثروة الاجتماعية والقيمة الاقتصادية المحققة على نصف قرن مضى، ولا يوفر قناعة الاستفادة الكاملة من حصيلة فكر الكفاءات الوطنية المتوافرة.
مهم اتفاقنا أنَّ تعظيم الفائدة لاقتصادنا الوطني يكمن في معرفة الجادة الأمثل على طريق التنمية الاقتصادية. توسيع نطاق التناغم الفكري السليم في الشؤون العامة والتدارس في الطرق والوسائل لتحسين الأحوال المعيشية واستخلاص هوية تنموية حضارية عربية مسلمة لاقتصادنا: تعطي إضافات لبعضنا من أنَّ فكر المشاركة بقدر سعة الصدر للاستماع والعقول للاستيعاب. كمال الأعمال في الابتعاد الفكري الثقافي المحلي السائد من التقليل لفكر الغير والتشكيك في قيم الآخرين والنيل من المكاسب المحققة دون الأدلة الثابتة ولا معرفة فائدة مجنية.
تحرير نقاوة التعاملات الداخلية في الأعمال يقلل من المخاطر الاقتصادية المتكررة الأضرار، التي تفتك بصلب مقدرات الاقتصاد مثل هجمات الجراد على الزرع: تفنيه وتضر بمقومات طبيعة قيامه. الأحداث الدامية تضرب سلباً بالأعمال وتزعزع الثروة الوطنية مرة بعد مرة دون معالجة للمصابين ولا وقاية منتظرة للمستجدات. عطاء المثقفين السعوديين القابعين في المراكز المؤثرة، قاصر على التحرك في دوائر معرفياتهم والانشغال في فكر "المؤامرات" الطبقية الخفية. مسيرة التنموية السليمة المزدهرة توفر مجالات واسعة لمعالجاتها والانطلاقة السليمة.
نصف قرن من التنمية الاقتصادية الاجتماعية أعطت المجتمع حصيلة وافرة من الإيجابيات والسلبيات نعيشها ونراها من حولنا. قليلاً ما نتحدث بنعمة الله علينا. كثيراً ما نشكو همساً على مستوى الجهر، نواقص مزعجة لحياتنا. تكاثر الشكوى الحياتية وتكرار بقائها في قلب المواطن العاجز المسكين انعكاس سيء على تنظيمات المجتمع الاقتصادية الاجتماعية. استمرارها أسوأ على المتعلمين المثقفين الذين فكرهم متقوقع على الشكوى من الغير في "راحة" غرف ليلية مغلقة. الأفضل قيام تكوينات فكرية حرة وطلقة تتدارس الأوضاع الاجتماعية وتتحدى العوائق وتتخذها المخارج من قيود التخلف المجتمعي. حقيقة أن الدولة المحرك الرئيسي للاقتصاد الوطني عن طريق الحكومة، موفرة المواجهات التنموية، ضمن قطاعات الاقتصاد الوطني. الوطن في تحركات أفراده وقطاعاته المختلفة يتفاعل ويتعامل مع الدولة في الأخذ والعطاء العملي والفكري، محققاً تلاقيه مع الدولة مباشرة وعن طريق الحكومة. تقوية حوار الفكر وتجسيد لقاء الثقافة وتبادل المعرفيات الاقتصادية والاجتماعية لمسيرة التنمية، يحرِّر المنطلقات ويوضح التوجهات. النتائج المنتظرة قيام مفاهيم وطرق للمساندة بين الأفراد، وفقاً لقدراتهم ومؤهلاتهم والآليات حسب الانفتاح الحكومي لبناء الاقتصاد الوطني على فكر منفتح للرقي، من تنظيمات وتقيم المستحدثات الإدارية والمقترحات الجديدة. طالما أنَّ القرار النهائي مسؤولية الجهات الحكومية التنفيذية والآليات التشريعية القائمة المثقلة بالأعمال والمتطلبات، فإنَّ المداخلة الأكثر لثروة الأفراد المعطلة، تكمن في تشميع حوارات البحث العلمي والنقاش الهادف التنموي، تماشياً مع الاستفادة من أفكار البنك الدولي وصندوق النقد، دون إغفال فارق المستويات العلمية والتجريبية والضغوط المصاحبة.
المثقفون غير المنشغلين بأعمال ومسؤوليات تتناسب مع تقييمهم لقدراتهم وكفاءاتهم، يعيشون "فراغ ثروة فكرية ضائعة". بقائهم دون "شغل ولا مشغلة" منتجة، يدفعهم للتفكير المغاير كثيراً لمسارات فكر المؤسساتية الحكومية والمدنية والأهلية القائمة من دون فائدة ولا استفادة للتلاقي النفعي. الفراغ القاتل المحيط بتطلعاتهم وطموحاتهم، قد يتطور لإشاعة التوجهات الخـُلفية الصوتية التي تزيد من الضياع، وتأثيراته سلبية. أغلب هذه الأنماط البشرية المثقفة "غربية" المنبع الفكري، بعد أن قضت زهرة حياتها في مجتمعاتهم، وحصلت على الشهادات من جامعاتهم. لا خلف بيننا لقيام مظاهر العداء لنا بين كثير من قطاعات الفكر الغربي، كما نعرف أنَّ بينهم في الغرب من يرفض عقيدتنا ولا يقبل حياتنا ولا يفهم أحوالنا. كثيرون منا ذلك الرجل بالنسبة لأحوالهم المعيشية وأوضاعهم المجتمعية. محاولات البعض من الطرفين الاستغلال والاستنزاف لخصوصيات القيم الاجتماعية متوافرة. التفاوت في تجارب التعاملات الحياتية كبيرة التباين. فجوات التخلـُّف التفاوضي والتعاقدي والتعاملي "صغـْرت" وتبخـَّرت بالعلم والمعرفة والخبرة. ثغرات الخلف والاختلاف العقائدي والسياسي في طريق تحقيق المكاسب الفردية الوطنية مُتزايدة لفقدان ريادة الحكومات المعنية احتواء "النواقص".
مفهوم منهجية الأعمال والتعامل لتحقيق المصالح العامة والفردية ضمن الإطارت التنموية متوفرة الوضوح. الصراع الغربي الصناعي على مناطق العالم النامي استراتيجية خفية خدمة لمصالحهم، من المنتوج النهائي إلى الخامات. كثير من اقتصادات شرق آسيا وأمريكا الجنوبية لا تعتبرها عوائق للتنمية ولا مخاطر لاقتصادياتهم. التغيرات السياسية والعقائدية في شرق آسيا وبعض دول أمريكا الجنوبية تثير دوماً، وعلى جميع المستويات الأهلية والخاصة والعامة، تباين "صراع المصالح" مع الغرب الصناعي، وخاصة الولايات المتحدة وتظهر وتبين في التأثيرات السلبية الحكومية في المصالح الاقتصادية. الصراع الصوتي المعارض من داخل مجتمعات شرق آسيا وأمريكا الجنوبية تصاحبه نشاطات اقتصادية مشتركة مزدهرة، تصب في النهاية لمصلحة الاقتصاد المحلي، وتدفع لقيام اتفاقات اقتصادية مثل "الماركوسو". واقع متطلبات واحتياجات الاقتصاد تتفاعل وفقاً للمصالح المتفاوتة التضارب للدول الأعضاء التي تمثل واقع الاحتياجات للمؤسسات العاملة في الإقتصاد الوطني وغير متضررة لاختلاف المعتقدات والتباينات السياسية التي لا "تأكـِّل عيش". الرئيس البرازيلي اشتراكيته أقل عنفوانية من اشتراكية الرئيس الفنزويلي. الأول فـُرضَ عليه قبول العمل وفقاً للتركيبة الرأسمالية الغربية الفكر: الناجح اقتصاديا تعمل البرازيل بحروف اشتراكية، محققة قفزات تدعمها نتائج زادت من قيمة العملة المحلية وضاعفت معدلها أمام الدولار الأمريكي. الثاني اختار تعقيد الخـُلف الأمريكي بدلاً من احتوائه، ودخل في إعادة بناء اقتصاد بلاده، بعيداً عن فكر الغرب الاقتصادي وجرياً خلف صراعات سياسية عقائدية مدعومة "بهبة ربانية"، وبعيدة عن تقوية البنية الاقتصادية الاجتماعية الهادفة لتعظيم التشغيل المزدهر لاحتواء البطالة.
الرئيس البرازيلي أخذها من قصيرها: أفرغ المداخلات الأجنبية من محتواها المعطـِّلة وواجه قادتها بأفكاره وتطلعاته وطرقه وأساليبه. أبرز صدى لتحركاته الاشتراكية في قوالب رأسمالية محلية "دخول" أول رئيس جمهورية برازيلي أجواء الولايات المتحدة في طائرة تجارية برازيلية الصنع: فكر اشتراكي لاستخدام سليم للتقنيات الغربية ودليل قاطع على قدرة الاقتصادات النامية أن تحقق التقدم لاقتصادها والرفاهية لشعبها من توفير زيادة فرص العمل من التوسع التنموي، ليُدخل الاقتصاد البرازيلي في زمرة الاقتصادات الصناعية الغربية، على الرغم من الفقر المتفشي والجهل المستشري والمعرفية المتدنية محلياً. صدى الرسالة من الزيارة الشهيرة عالمياً كان كبيراً، وداخلياً مُحيِّراً للرأسماليين ومُفرحاً للفقراء والعاطلين. أبرزها عدم خوض المثقفين لميل مفاجئ لمخاطر تباعد وقطيعة الغرب في طريق تنمية الثروة الوطنية، وتخوُّف التكوينات الاقتصادية القائمة من زعزعة المسيرة التقليدية الاقتصادية واختلاف طرق وسائل تكاثر الثروات. البرازيل في طريق النماء لا تشكو الضياع من "فراغ المثقفين" ولا انشغال جهودهم الإنتاجية في خلافات عقائدية. توجهاتهم مستمرة في تسخير علمهم ومعرفتهم في تطوير التقنية للاستخدامات المحلية لتفعيل التحركات البحثية الاقتصادية الاجتماعية في الجامعات والمعاهد العلمية الحكومية والأهلية والخاصة. الإضافة المهمة التي قدمها الرئيس الاشتراكي برامج فكرها رأسمالي وأهدافها إنسانية تتلخص في ضمان ثلاث وجبات غذاء يومية للفقراء وفرص اكتساب المعرفة والعمل في مناطقهم الشمالية لراحتهم وتخفيف الزحف على المدن. القاعدة السائدة في العالم ثراء في الشمال وفقر في الجنوب. العكس تعيشه البرازيل: ثراء في الجنوب وفقر وجهل وفاقه في الشمال. البرنامج التنموي البرازيلي المحلي يستهدف توثيق الرباط الاجتماعي الاقتصادي لتقوية وحدة الشعب البرازيلي والتعاون مع "المزعجات" الخارجية الدولية والضغوط الداخلية. الصيحات الهجومية التي ظهرت في البرازيل منذ خمس سنوات على التغيرات الاقتصادية الاجتماعية من أصحاب مؤسسات العمل "الثرية" جهاراً، خوفاً على مستقبل مصالحهم مستمرة همساً. واقعها أنَّ التطوير الاجتماعي والتغير الاقتصادي مزعزع لراحتهم على الرغم من الارتفاعات الكبيرة في تنامي الاقتصاد والنتائج الحسنة. توزيعات الماديات اختلفت بقدر تقاسم العلم والمعرفة والجد في العمل والاجتهاد في زيادة الإنتاج وليس من ترويج فكر "إنقاص" قيمة ومقدرة الغير.. خلافاً للسائد محلياً.
الفكر العالمي المقارن مهم لجني الفوائد. الإيجابية من تداوله وتعاطيه تعطي ثماراً طيبة. "النقل" الصوتي في السلبيات ونسيان الإيجابيات ضرره أكثر من نفعه. "الهبة الربانية" غيرَّت جوانب كثيرة من حياتنا المعيشية وتعاطياتنا العملية وفقاً لاستخداماتنا للعلم والمعرفة التي اكتسبناها. منافع توسيع المدارك لا تعد ولا تحصى بالقدر الذي نستعين به لتقوية عقيدتنا ومعرفتنا لاستمرار تحسن أحوالنا. ضروري ألا نترك مجالاً للإضرار بمسيرة التنمية وتوفير المعرفة للمواطن ليعمل للغير أو لحسابه، وأن نحميها من سلبيات في داخلنا وصراع المصالح من خارجنا. ليس من الفطنة أن نكثر من المستلزمات المستوردة الغربية، وتعظيم منطق معارضة الاستفادة من تقدمهم العلمي وخبرتهم المعرفية. تعظيم الفوائد وتكاثر المنافع في أن نوثق عرى التواصل العالمي في المصالح التي تزيد من انشغالنا في الاستثمارات التي تقوي القاعدة الاقتصادية المحلية في العلوم والمعرفة والثقافة والتعليم والزراعة والصناعة.. إلخ. بقاء قيمنا مصونة وعقيدتنا محفوظة في مقدورنا، ولا يمكن لقوة أن تخدشها، طالما أننا واعون لما نحن عليه ومتمسكون بثوابتنا. العشوائيات الفكرية والعقائدية المغالطة في طريق توسيع طرق المعيشة وأساليب العمل النافعة، تضعف الصداقات العالمية وتضر بالثروات الإنسانية وتقوِّض القدرات الإنتاجية.
التاريخ يعطي لنا سجل الصراعات التي مرت بها منطقتنا العربية الإسلامية على مدار نصف قرن مضى. الصراع سنة الحياة والعلم والمعرفة تقوي سواعد مواجهته. التيارات الفكرية المحلية المتضاربة بين الواقع الذي يعيشه أصحابها على مقتنيات الغرب الاستهلاكية والفكرية، لا تضر بالغرب، بقدر تضرُّرنا، طالما أننا قبلنا "تعايش المصالح" معهم طريقاً لبناء اقتصاد وطني إسلامي سعودي حديث. المنفعة أن نعيش التقدم المُحقق للازدهار والرقي بالمستويات المقررة ضمن القيم المفترضة والعقيدة السمحة، دون الدخول العدائي والتباعد المادي والفكري والعقائدي. العمل والتخطيط من أجل المال فان. التوجه من أجل الثراء الفكري، العلمي، الاقتصادي، الاجتماعي، والمالي، يتوافر وفقاً للمفاهيم الحديثة المتنورة المتطورة للعقيدة. الانسياق للمشكلات والتحديات، التي لا تعنينا من قريب أو بعيد، خراب للأمة وإضرار بالوطن. التطوير الاقتصادي الاجتماعي يتطلب فهم المستقبل الذي نتطلع إليه لتحقيق الحصيلة متكاملة لمجتمع يأكل ليعيش ويعيش ليأكل وفق عقيدة الإسلام. والله أعلم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي