اقتصادنا ما بين الرتابة والرشاقة
أعطى منتدى جدة الاقتصادي لهذه المدينة التجارية العريقة, حيوية وحراكا اقتصاديا واجتماعيا لا تخطئه العين منذ انطلاقته الأولى قبل نحو ثماني سنوات. فعلى مدى هذه السنوات تم اختيار واستعراض ومناقشة عدد من القضايا والتحديات الاقتصادية المتعلقة بكفاحنا من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية المنشودة لبلادنا. بل ربما تم تناول بعض القضايا السياسية والاجتماعية في بعض السنوات، ما لم يكن مألوفا على مجتمعنا مناقشته أو تسليط الأضواء عليه. ولا شك أن تبدل الأحوال وتغير الظروف دفعا نحو هذه الشفافية من أجل بناء مستقبل أكثر أمانا واستقرارا لمجتمعنا. كنا نتجنب الحديث عن قضايا وتحديات اقتصادية وسياسية واجتماعية نعاني منها، متصورين أن تأجيل النظر فيها وتأخير التصدي لها هما من الحكمة وبعد النظر. في حين إن تأجيل التصدي للتحديات الكبرى التي تواجه أي أمة، هو ما يزيد من تعقيدها، بل ويجعل ثمن الإصلاح المتأخر فادحا ومكلفا. وحسنا فعلنا، فقد كنا بحاجة ماسة إلى البدء في مناقشة قضايا عديدة تهمنا سواء في الجانب السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي. ففي الجانب السياسي أدى تسليط الضوء على مسألة حاجة المجتمع بمؤسساته المختلفة إلى مزيد من المشاركة السياسية إلى بلورة الأفكار التي نجمت عنها الانتخابات البلدية. كما جرت مناقشة قضايا تنظيمية واجتماعية كتلك المتعلقة بالمرأة ومشكلاتها، وإصلاح برامج التعليم، وتطوير الأنظمة والجهاز القضائي ونحوها. أما في الجانب الاقتصادي - وهو أصل فكرة هذا المنتدى – فقد تم تسليط الأضواء بكثافة على الإصلاح الاقتصادي، وقضية البطالة، وسبل تدعيم حجم الطبقة الوسطى في المجتمع، وأهمية توسيع دور القطاع الخاص في التنمية، والشروط الضرورية لجذب رؤوس الأموال الأجنبية ونحوها من المسائل الاستراتيجية اللازمة لانطلاق اقتصادنا من أجل تنويع مصادر دخلنا الوطني في ظل النمو السكاني المتزايد.
كان بعض المشاركات المحلية والأجنبية من ضيوف المنتدى عبر هذه السنوات ذا قيمة عالية، ففي كل سنة كان يبرز نجم محلق يقدم عصارة تجربة بلاده التنموية الناجحة. ولا يمكن للمنتديين أن ينسوا براعة رئيس الوزراء الماليزي السابق الدكتور مهاتير محمد وهو يعرض قبل عدة سنوات بلغة سهلة وبليغة ومقنعة تجربة بلاده الرائدة. لكن قصص النجاح لا تقتصر على التجارب الكبرى لمجتمع كامل، بل يمكن أن تأتي من تجارب فردية لشركات أو شخصيات قيادية. وقد كانت محاضرة الدكتور وليد فتيحي في منتدى هذا العام من تلك المحاضرات عالية القيمة والأهمية. فقد بين فيها كيف يمكن للمؤسسات الخاصة أن تجمع بين مبادئ الإدارة الناجحة وقيم المسؤولية الاجتماعية في عرض رائع لم يخل من البعد الإسلامي الجميل للقيم الاجتماعية الرفيعة. إذ يؤمن هذا الشاب، الذي أحسبه مفخرة ونموذجا يحتذى للجيل الصاعد من أبناء وطني، بأن المولي عز وجل قد خلق الكون بطريقة تكافئ بصورة تلقائية كل الذين يلتزمون في نواياهم وأعمالهم بالمبادئ والنواميس الإلهية التي تشكل أساس النظام الكوني. وأن التحدي الحقيقي يكمن في قدرة كل فرد وكل مؤسسة وكل مجتمع على فهم هذا النظام الكوني وتكريس الحياة البشرية لتتناغم في التزام جاد مع قيم الإتقان والعدل والمساواة والأمانة والتواضع والرحمة ونحوها.
وفي السياق نفسه, عرضت السيدة آسيا آل الشيخ من شركة تمكين للاستشارات التنموية والإدارية، نتائج دراسة متميزة عن المسؤولية الاجتماعية للشركات، طبقتها على 100 شركة سعودية، ومستقصية نحو 32 شخصية قيادية, خلصت فيها إلى غياب هذه المسؤولية عند عدد كبير من شركاتنا ومؤسساتنا على الرغم من أهميتها البالغة على رواج وازدهار المجتمع, إلا أن الدراسة أشادت على نحو واضح ببرامج شركة عبد اللطيف جميل التي أحدثت وتحدث تأثيرات وتغيرات ظاهرة في المجتمع. وأكدت هذه الدراسة أن القيادية الواعية في الشركات تؤدى دورا حاسما في إدارة الإبداع والتنسيق فيما يتعلق بالمسؤولية الاجتماعية للمؤسسات. ومن الواضح أن القيادية الإبداعية لشخصية المهندس محمد عبد اللطيف جميل قادت مؤسسته لهذه الإنجازات الكبيرة في مجال المسؤولية الاجتماعية وخدمة المجتمع. إن اللافت في مثل هذه المشاركات أنها أخذت تبعد عن الطرح الذي يأخذ صفة العموم والانطباعات الشخصية وينحو باتجاه الدراسات التطبيقية الرصينة المعتمدة على أساليب البحث العلمي. بل إن المنتدى عمد في دورته الحالية إلى تقليد جديد ومثير! فقد أعطى الحاضرين فرصة التصويت المباشرة على القضايا التي يجرى نقاشها والاطلاع الآني على نتائج هذا التصويت. فعند مناقشة موضوع المسؤولية الاجتماعية للشركات، أبدى 80 في المائة من الحضور اعتقادهم أن الشركات لا تقوم بواجباتها سواء تجاه المجتمع أو حتى تجاه موظفيها، ما يؤثر غيابها في إنتاجية ونمو هذه الشركات. ولا شك أن الإعلام الحر في أي مجتمع يمكن أن يؤدي دورا أوليا مهما في جعل المسؤولية الاجتماعية للشركات أمرا شائعا ومألوفا.
على الرغم من أنه يحسن بنا أن نتأمل وندرس ونستفيد من جميع تجارب التنمية سواء تلك التي بدأت في المجتمعات الغربية منذ نحو ثلاثة قرون، أو التجارب الحديثة التي جرت في بعض المجتمعات الشرقية خلال العقود الأخيرة، إلا إنني أعتقد أن تجارب المجتمعات الشرقية أكثر فائدة لنا. ويبدو أن هذا هو أيضا اعتقاد المنظمين للمنتدى. فقد كانت تجارب هذه المجتمعات حاضرة دوما في كل عام, إذ سبق استضافة الكوريين والسنغافوريين والماليزيين، فيما ركز منتدى هذا العام على تجربة الصين وسوف يركز المنتدى القادم على بعض التجارب الناجحة لشخصيات وشركات هندية.
إن المهم في هذه المنتديات حتى تؤتي ثمارها، أن تجد توصياتها طريقا للتنفيذ السريع في حياتنا. سئمنا من رتابة حركة اقتصادنا، وتحسرنا بما فيه الكفاية على الفرص العظيمة التي تضيع من بين أيدينا. نحتاج إلى أن نغير أنظمتنا ونطور أسواقنا ونزيد من وتيرة إصلاح اقتصادنا ليبدو أكثر رشاقة وأصلب عودا على وضع قدم له في مضمار التدافع والتنافس الاقتصادي العالمي.