(عيــنٌ عَرفـتْ فذٌرفت)
"سلام مربَّع" للزميل فواز حمد الفواز، للإضاءة الفكرية الهادفة، "الاقتصادية" اصدار27/2/2007. طرحه تعرَّض لتباين الصراع غير متوازن من داخل واقع النفق المحلي الطويل للنقلة الحضارية لاقتصاديات البلاد واجتماعيات الأهل من جهة، وبين البيروقراطيين والتكنوقراطيين من جهة أخرى. يخلص إلى قوله "أنه تحد كبير للمجتمع قيادة وشعباً، أن يُحوِّل الدور القيادي في المؤسسات الاقتصادية الفاعلة من قبضة البيروقراطي إلى التكنوقراطي". موقفه من القطيعة التي يحدثها البيروقراطي في المجتمع والإضرار بالاقتصاد الوطني، مُستمدة من قدرته على أن "يستغل علمه في قدرته الفائقة على التخلص من المسؤولية ولوم المجتمع أو من حوله. إحدى خصائص النوع البيروقراطي، حرص أكثر على المصلحة الشخصية، فهو يريد أن يعوِّض طول الدراسة في الدكتوراة. دوره الاقتصادي خطير، فهو يعرف ما يريد، ولكنه يدعي نزعة خاصة لتحديث النظام، يخاف النوع البيروقراطي، ولكنه في الغالب يتركه وشأنه، كل في ما يخصه، ولا يترك فرصة في محاربة التكنوقراطي مرات بالشك ومرات بالتعاون مع البيروقراطي التقليدي".
تقدم الاقتصاد الوطني السعودي يتعثر، وفقاً لمفاهيم معايير تحوير وتدوير التنمية الاجتماعية الاقتصادية المستدامة، من منظور تواضع الفرد، وقناعاته أنَّ جميع المتغيرات التي حوله والأضرار التي نشكو منها، ليست منه بقدر ما هي من تصرفات المجموعة من حوله. التصرفات غير المشينة التي تنخر في نسيج التكوين الحديث للاقتصاد الوطني ومكوناته الاجتماعية تضر بمصالحه وتجعله المتضرر الأكبر. الفراغ الذي لا نراه، ولكننا تائهون في "معمعته"، يدفع بكل منا إلى أن يأخذ الأمور وفقاً لأهوائه وقدراته، ويسيِّر الأعمال حسب طاقاته ويرضى بحصيلة النتائج. الأسماء المستحدثة من بيروقراطي إلى تكنوقراطي من جهة، وتفاوت المؤهلات العلمية وتنوع درجاتها من جهة أخرى إلى "خلخلة" القيم المتوارثة و"زعزعة" المواثيق المتعارف عليها، ألوان متعدِّدة لأطياف متبدلة لأزمان متغيرة لإنسانية مظهرياتها متحسنة وداخلياتها العيفة والزينة غامضة. صراع المواطن المعيشي سُنة الحياة. حُب التغير للأحسن اقتصادياً والأفضل اجتماعيا بلسم التقدم والرقي. تنظيم تحقيقه بموازين عادلة وفقاً لنظم قابلة للتطبيق، يجعل عدالة تقاسم المصالح قريبة من إيفاء الكيل. الاتفاق الجماعي بين السائل والمسؤول لأسباب ومسببات التطلع للأفضل اجتماعياً والأثرى اقتصاديا يترتب عليه وضوح المرحلة المستقبلية للوطن والأساليب المتوافرة والطرق المتاحة للمواطن وفقاً لمنظومة متكاملة بقدر الإمكان من النظم والقوانين القابلة للتطبيق.
عشوائيات تقيم وتحليل التوجهات التقدمية، تحت" دخان" تأقلمنا المخضرم لنصف قرن من الوفرة النقدية، القادمة علينا من الهبة الربانية والسيولة المتدفقة تعظيماً لتدوير المخصصات المالية، بطرق وأساليب تعطي مفهوم قيامها على أسس عالمية وعربية، مصاغة في قوالب تقليدية ظاهرها مقتضبة الثبات واحتمال باطنها "مُرجيحةْ" للمرجفين. تنفيذها ضمن نظم وتعليمات متكاملة التطويل ومزاجية في التطبيق ومساحات تجاوزات مخفية، بمبررات علمية يترتب عليها صراعات تطمس الفوارق بين الحق والباطل، دون أن توقف المسيرة ولا تؤثر في مقدار اعتدال توجُّهاتها. المهم ليس المصالح والمكاسب الشخصية الفردية المحققة خارج الشفافية المتوافرة، بقدر الإضرار بالقيم العامة والخاصة وتعطيل التوجه الوطني لتفعيل الازدهار الاقتصادي وتطوير العمل الاجتماعي لاكتساب المواطن السعودي المهارات الحديثة ليختار لنفسه أن يكون صاحب عمل أو عامل. الطبقية التي عليها المجتمع، ليست بالجديدة. جديدنا أنَّ قافلة التقدم مغلـَّفة بأضرار "جْلوزتنا" العلم الحديث بقوالب، تساعدنا على أن نترك الطيب من عاداتنا وتقاليدنا، ونأخذ من التقدم العلمي الغربي "علومه" الاستهلاكية والترويجية التي على "قد السنون". الدولة عماد أساسيات قواعد الاقتصاد الوطني السليمة. الحكومة "سُكـَّان ساعيةْ" التنفيذ عن طريق الأجهزة الرسمية والمساندة ليتولى تصريف مسؤولياتها المواطنين الرسميين في تعاملاتهم مع المراجعين المواطنين. القطاعات والتكوينات الأهلية والخاصة تتعامل مع الأجهزة الحكومية وبين بعضها بعضا بالطريقة البيروقراطية نفسها والأسلوب المتعالي، بدون فوارق تذكر متأثرة بتفاوت الاعتبارات الأهلية والخاصة والرسمية.
ضمن هذا "الفهم"، فإنَّ المشكلة ليست قوقعة "أمارة الأباريق" للرسميين والحكوميين، بقدر ما هي "تصريف" أخلاقيات التعامل الحديثة وتطبيقاتنا الإدارية ضمن مفهوم سلطات واضحة تعطي الأمان لحرية التعامل العام المدعوم بصلاحيات "المركز" وإرضاء المرجعية الإدارية العليا دون الخوف من الله ولا هيبة النظام للتعطيل والتطويل والتسويف. المفهوم الدارج عند العامة والخاصة طالما أن ليس هنالك مصلحة مادية شخصية، يصبح التباين على تقاسم المسؤوليات فلسفيا وضرره غير ملموس وعقابه خلافيا. الماديات مقابل رقي مستويات الخدمة، الطريق للرشوة، تجنباً لتأخير المعاملات والمصالح وابتعاد عن البيروقراطية. تساهل القبول بالبيروقراطية في تعاملاتنا الشريفة استشرى، حتى أصبحت متآخية مع فلسفاتنا لمفهوم الإدارة المتطورة، بينما هي "ضرب" من الفساد. قديماً اعتبرنا موضوع الفرق بين الراشي والبيروقراطي خلافيا نظريا. الاقتصاد الجديد يحكم على نتائج الأعمال ليساوي بين الاثنين: الرشوة والبيروقراطية من منظور الضرر العام. نحن قبلنا بالثاني ورفضنا الأول، ولا ندري أننا بعيدون عن التطبيق السوي. إثبات تعطيل المعاملات والمصالح، يدعمه انتقاص الإنتاجية وتأخير التنفيذ عن المواعيد المقررة والبرامج الموضوعة. الدليل على الرشوة مادي. بينما البيروقراطية "منظور" مقارن لما يجب أن تكون عليه الأمور دون ربط بالبيروقراطية التي هي إنعكاس لروتين يضعه مسؤول رسمي واحد في أربعة: تشريعي، حاكم، تنفيذي، وإشرافي. ماضي (1×4) قوي التأثير لحقيقة واقع حاضرنا وانعكاساته المحيطة لمستقبل الأجيال المقبلة ترى وجودها واضحا حتى في مشاريع برامج الخصخصة "المتمرجحة" مثل "الهندول" بين الأهلية والخاصة والرسمية.
الوطن وحدَّه المؤسس - رحمه الله. توزيعات المناطق الثلاث عشرة: قوة التماسك رسَّخت وحدته. النظم والقوانين الموضوعة لتماسك أجزائه وتسهيل مصالح المواطنين، تعطي الثمار بقدر "صفاء الفكر" المُهندس لتدوير شؤونه. مصداقية طبيعة التعاملات والحفاظ على الحقوق والتربية الفاضلة والأخلاق الحسنة وتفعيل الإقْدام على العمل وزيادة الإنتاجية من المؤازرة لنيل المراد بالحق والقسطاط وبدون تعطيل. مشكلة الوطن والمواطن أوسع وأخطر من حصرها في البيروقراطي الذي حسب قول الكاتب: "لعل لديه (البيروقراطي) الفرصة لتغير الخريطة الاقتصادية في المنطقة ليس حجماً فقط، كما هو الحال، بل كيفاً ونوعاً، وهذا هو الأهم". الخروج من "الورطة" التي نحن عليها يصعب أن نجدها في استرسال الكاتب أن "يبقى دور الحكومة في إدارة الاقتصاد مركزياً ولوقت طويل، حتى يتمكن الاقتصاد الخاص من تطوير تنمية متكاملة مبنية على اقتصاد القيمة المضافة والضرائب". الدليل الموثق ليس فقط أنَّ الحكومة يديرها بيروقراطيون تكنوقراطيون مواطنون سعوديون, بل نجدها في قول الكاتب "المراقب اليوم لهذا الدور في المملكة يجد سيطرة بيروقراطية على حساب المعرفة الفنية المهنية التكنوقراطية" في جميع جوانب حياتنا المعيشية وتعاملاتنا.
المراجعة التاريخية لاقتصاد المملكة خلال نصف قرن مضى، توضح بسهولة أنَّ كثيرا من مظاهر الازدهار الاقتصادي والتقدم العلمي والتحسن الاجتماعي لشريحة ظاهرة من المواطنين، يغلـِّف تطبيق كثير من أجزائه معرفيات حديثة في المنطق والإدارة والنظم والتنظيمات بطرق ووسائل تخدم ظروف وأزمان ومصالح مستثناة، ربما حفاظاً على الخصوصية ودرءاً للذرائع .. إلخ. أضرار هذا الفكر على الاقتصاد الوطني معطـِّلة للتقدم الاقتصادي. فاتورة استمراريتها "فورة" الهبة الربانية واقتطاعات من حقوق الأجيال المقبلة، لتحسين مؤقت وموقوت للطبقات الدنيا، دون النهوض بكيفية ونوعية الخدمات الاجتماعية والإنسانية. البيروقراطية ليست مجرَّد مؤشر للمشكلة الإدارية، بل تتماثل مع الظل المعوج مفاضلة منا على "العود الأعوج". المشكلة مُتغلْغلة في العقلية داخل الرأس المسيِّرة للجسم. الجسم السليم في العقل السليم، وليس العكس كما يصبو لنا قوله في أنَّ العقل السليم في الجسم السليم.
نفرح لإعلان رسمي عن إستثمار ثلاث عشرة شركة أجنبية محلياً منذ أكثر من سنتين. وننسى أنَّ تسجيلها شركات سعودية عامة لم ينته بعد حتى يومنا هذا: رقم قياسي لم يجد طريقه بعد في موسوعة جينيس العالمية. "مراجعات" المستثمرين لأربع جهات حكومية لتنظيماتهم قائمة على قدم وساق. التفاهم بين الإدارات المعنية مفقودة و"الطاسة" الرسمية ضائعة. الله.. للوطن والمواطن. فرحتنا لوزارة كشفت "سرقات" "عرضية" أحدثت ضجيجاً لم يتغلغل لأعماق المشكلة. كميات مشتريات هائلة للوزارة نفسها، (وفقاً لمصادر إذاعة يقولون) مهملة في المخازن والمواطنون في حاجة ماسة لها. الإهمال نوع من السرقة، وفقاً لمفهوم الاقتصاد الجديد. استمراريته رسمياً يحوِّل الإهمال إلى "فساد" لأن ضياع المال العام يتماثل مع السرقات.
"القيل والقال" بيننا كثير. حصيلة العمل البنـًّاء الصالح لكثرتنا جميعاً قليل. "فوضوية" التفكير الفرادي لعمل جماعي يؤدي "لمجاكرات" نقاشية من منطلقات أنانية وانعكاس لضياع المواطن في أرجاء المعمورة الواسعة. نادراً الحديث عن النواقص الخاصة والعامة ضمن الإيجابيات المغفلة. دائماً يعطي المواطن السعودي نفسه خصوصية تميِّزه معرفة صلاح الأمور وجميع من حوله من المواطنين خطاؤن. يتعاظم هذا الفكر مع الرقي والتدرج العلوي في السلم الوظيفي الأهلي والخاص والعام. بريقه يزداد في فكر صاحبه وإدعاءاته الشخصية "تتسطـَّح" مقارنة بمنطق"العُقـَّال" لتقارب زمن الترقية والتجديد للمنصب والاهتمام الزائد المؤقت لمسبباته المسؤولة. الثقافة الغربية أخذت حقها من حضارتنا التقليدية بقدر ما أخذنا نحن من تلك الثقافة ما يتناسب مع راحتنا وتطلعاتنا، وعلى حساب المصلحة الوطنية. اليوم لا نزن الأمور بقيم نصف قرن مضى، ولا نهضم حقيقة ثقافة الغرب. أغلبيتنا في المتوسط لا تقل ولا تنقص عن شخصيتين مختلفتين في واقع الداخل والمظهر الخارجي، وعصارة خليط معرفيات الشرق والغرب. حقيقة هويتنا تتكيَّف حسب ما نريد، وشخصيتنا برجوازية الطالع ومتغيرة المزاج. نحن لسنا بيروقراطين بقدر ما نحن معطلون لمصلحة الآخر الفردية وضارون للمصلحة العامة. التكنوقراطية العملية في مجتمعنا لا تقوم على حقيقتها. مجالات تخصصاتها محدودة ومكانتها الاجتماعية مهزوزة. الحديث كثير عن مظاهر الجوانب التنفيذية الخاطئة للتكنوقراطية الضارة للوطن والمواطن، واعتبارها "المشكلة" في طريق نهضة اقتصادية تضع الوطن في المكان اللائق في مصاف الأمم. "المشكلة" الحقيقية، أنَّ النظام وأساليب تطبيقه تسمح على جميع المستويات للمواطن أن "يعطـِّل" مقدرات الاقتصاد الوطني وفقاً لهواه. الأضرار الناتجة من التعطيل على الوطن والمواطن "فساد"، يترتب عليه أنَّ المتسبِّب "فاسد" قبل أن يكون بيروقراطيا. التكنوقراطي في الأجواء التي نعيشها والواقع الذي نحياه، تجعل طرق عمله ووسائل حياته بيروقراطية، ليضمن لنفسه البقاء في داخل "التشكيل" البيروقراطي. التحدي لإجماليات الأمور الإصلاحية اقتصادياً واجتماعيا، لا يمكن تجزئتها ولا ترقيعها. العلم والمعرفة لا تورث، والمعرفيات "لا تٌسعود".
النظام والتنظيم الوطني السعودي يوافق على كثير من الاتفاقيات مثل "توا" لتحرير التجارة والاستثمار والأعمال ويفتح الاقتصاد الوطني على مصراعيه مسارات الخارج مع الداخل في الحقوق والواجبات المتفق عليها. أبواب العمل متوافرة بموجبها في التوجهات المختلفة للأعمال والبضائع والخدمات والسلع الاستهلاكية خلاف تسهيل حرية انتقال المعرفيات الأجنبية وأصحابها، وسماح قيام وتبادل الخبرات المستوردة وتوظيفها، بغض النظر عن الجنسيات. تنظيف "الأمخاخ" لتوافق تحرُّر التطلعات مع صادق واقع التعاطيات، يعجِّل من وفرة تسريع "غسيل الأمخاخ" لنجعل المصلحة العامة فوق المصلحة الخاصة، وتضيق دائرة الفساد لكل ضرر "بالمصلحة"، ضمن نظم قابلة للتطبيق ونافذة التوافق مع فلسفة الاقتصاد الجديد. والله أعلم.