يمنع الاختلاط ويسمح للعوائل
في لقاء مع أحد رجال الأعمال أوضح لي أنه تقدم إلى إحدى الجهات الرسمية طالباً الحصول على ترخيص لإقامة سيرك داخل المدينة الترفيهية التي يملكها، غير أن المسؤولين رفضوا طلبه بحجة أنه لا توجد تراخيص معتمدة للسيرك، غير أن أحدهم أشار إلى رجل الأعمال بأن يقوم بتغيير كلمة السيرك في الطلب الذي تقدم به ويستبدل هذه الكلمة بعبارة (عروض بهلوانية)، فتم تعديل الخطاب وتقديمه مرة أخرى وحصل على الموافقة بالرغم من أنه لم يغير سوى كلمة واحدة فقط، وفي مدن الألعاب أيضاً يمنع التصريح بوجود ألعاب سحرية وتستبدل بعروض خداع ومهارة. وفي الأسواق والمطاعم يمنع الشباب من الدخول أحياناً بسبب الاختلاط في حين يسمح للرجال والنساء بالدخول مع بعضهم البعض باعتبار أنهم عائلة، أما في مجالات الأعمال فيستبدل مصطلح الرشوة بمصطلح الإكرامية أو الهدية ويصبح الكذب حذاقة، كما يصبح الحق العام حقاً مشروعاً والفوائد الربوية مصاريف إدارية وغيرها من المصطلحات التي شاعت في مجتمعنا وأصبحت بالنسبة للكثيرين مثل (طوق النجاة) يلجؤون إليه كلما شعروا بأنهم على وشك الغرق. وحتى على الصعيد الدولي أصبحت المصطلحات هي التي تتردد وتتكرر في كل مكان وفي مقدمة هذه المصطلحات مصطلح (الإرهاب)، الذي أصبح الشماعة التي يلجأ إليها الجميع لتبرير أعمالهم على الرغم من عدم وجود تعريف متفق عليه لهذا المصطلح، وقد فتح هذا المصطلح أبواباً متعددة للعديد من المصطلحات الأخرى مثل التطرف، العنف، التشدد، وغيرها من المصطلحات التي يسعى الكثيرون إلى ربطها بشكل مباشر أو غير مباشر في الإسلام.
لقد أصبحت كثير من المصطلحات تتحكم في العديد من جوانب حياتنا المختلفة، فتضييع الوقت أصبح ترفيهاً، القسوة أصبحت تأديباً، التبرج غدا حرية شخصية، الالتزام أصبح تطرفاً، الخداع دبلوماسية، الإنصاف ظلماً، الخلاعة فناً، وأصبح الحلم ضعفاًً، الصبر عجزاً، الذكي هو الذي يستطيع أن يلتف على النصوص ويعرف كيف يحرف هذه المصطلحات للوصول إلى مبتغاه، وتم العمل على تغيير بعض المصطلحات التاريخية فأصبحت الشورى ديموقراطية، الاحتكار رأسمالية، المساواة شيوعية، التميز الطبقي أرستقراطية.
لقد أصبحنا نعيش في مرحلة أشبه ما تكون بفقاعة سوق الأسهم التي كانت موجودة قبل التصحيح - أقصد الانهيار- فمجتمعنا اليوم مجتمع نعتز كثيراً أنه إسلامي ومحافظ، غير أن البعض يحرص على أن يؤكد أن هذا المجتمع لا يشكو من شيء، بل هو مجتمع مثالي متميز توجد فيه بعض الأخطاء البسيطة التي لا تحتاج إلى قلق، فأصبحنا نغطي كل علل مجتمعنا بمصطلحات فضفاضة تظهرها وكأنها إيجابيات متميزة تتناسب مع عصر العولمة والانفتاح، وفي حين أنها تعمل على زرع الوهم بأننا مثاليون وأن هذه الحقيقة، وما عداها إنما هو أكاذيب وأحاديث مغرضة، وأصبحنا نحرص على طرح حلول ذات رؤية ومنهجية واحدة لا مجال فيها للاجتهاد.
لقد زاد عدد المتحدثين الرسميين ولجأ الكثيرون إلى استقطاب الخبراء اللغويين الذين يحرصون على انتقاء الكلمات المناسبة، وإعداد البيانات القوية ومراجعة النصوص والتأكد من المصطلحات، المعاني، والتسميات حتى أصبح البعض يرفض إجراء مقابلات إعلامية مباشرة خوفاً من الهفوات أو فلتات اللسان التي قد تستدعي بعد ذلك تصريحات أخرى توضيحية أو تصحيحية.
إن مجتمعنا اليوم في حاجة ماسة إلى الشفافية وإلى المصداقية والثقة وإلى أن يكون مجتمعاً واقعياً يعترف بمشكلاته ويعمل على طرحها وتقديمها للمختصين للسعي نحو إيجاد الحلول المناسبة لها، وأن نكف عن تأويل الأحداث أو تغيير المصطلحات أو تحريف النصوص، فنحن في حاجة إلى أن نكون صادقين مع أنفسنا أولاً ليصبح مجتمعنا ظاهره كباطنه وسره كعلانيته، وأن نحرص دائماً على أن نكون كالجسد الواحد نعمل في صف واحد مما سيسهم في التوقف عن البحث عن مصطلحات جديدة وهمية لبعض تصرفاتنا مستقبلاً.