ماذا يخسر الاقتصاد بسبب غياب البنوك الاستثمارية المتخصصة؟
لا شك أن كل فكرة جيدة لكي تتحول إلى مشروع صغير يكبر مع الزمان تحتاج إلى إدارة وتمويل، لذا ما برحت الدول المتقدمة توفر لكل متطلع لتأسيس مشروع تجاري صغير قائم على فكرة جيدة، آليات تمويلية تمكنه من تحويل فكرته إلى منشأة صغيرة تحول صاحب الفكرة من طالب للعمل إلى مقدم له بما يسهم في توسيع الفرص الوظيفية ويوفر السلع والخدمات لطالبيها لينمو مع الزمان مغذيا بذلك تكوين المنشآت المتوسطة والكبيرة، وكل ذلك في نهاية الأمر يصب في الاقتصاد الوطني بما يرفع من قيمة الناتج المحلي الإجمالي في المحصلة.
والسؤال: هل يجد أصحاب الأفكار في بلادنا التمويل اللازم لتحويل أفكارهم إلى منشآت صغيرة تنمو مع الزمن؟ الإجابة بالطبع لا وإن وجدت جهود بسيطة لا تتناسب وحجم السوق السعودية والسيولة المتوافرة التي تعاني من ضيق القنوات الاستثمارية، وذلك بسبب غياب هيكلة سليمة تربط الأطراف ذوي الصلة بتطوير المنشآت الصغيرة (صاحب الفكرة، الممول، المستثمر) بمصالح مادية مشتركة، نعم لا توجد هيكلة تحث كل منهم على البحث عن الآخر لتحقيق مصلحته المحققة لمصلحة الأطراف المتبقية باعتبار أن أيا منهم لا يستطيع أن يحقق مصلحته إلا بتحقيق مصالح الآخرين المحققة للمصلحة العامة.
في حوار مع أحد العاملين في صندوق المئوية وهو صندوق خيري غير ربحي يهدف إلى تمكين الشباب السعودي من تحويل أفكارهم إلى مشاريع صغيرة بدعمهم ماليا وفنيا بقروض ميسرة وإرشاد فني وإداري، يقول إننا في الصندوق نهدف إلى زيادة أعداد المنشآت الصغيرة بدعم الشباب الذي يحمل أفكارا جيدة وهمما عالية واهتمامات رفيعة (وما أكثرهم)، ولا يهمنا سواء كان الدعم مباشرا من الصندوق أو من خلال أي جهة أخرى بالتعاون مع الصندوق، ويضيف: إننا نعلم علم اليقين أن تحريك قوى السوق لدعم المنشآت الصغيرة هو السبيل الأمثل لزيادة أعداد المنشآت الصغيرة، ولذلك بذلنا جهودا موازية لجهودنا في رفع قدرات الصندوق المالية، حيث قمنا بالاتصال بكافة البنوك المحلية من أجل إيجاد آلية لدعم الشباب السعودي الطموح من أصحاب الأفكار والمهارات والقدرات والمواهب بالتعاون مع صندوق المئوية، حيث نقدم الدعم الفني والإداري ونطبق أعلى المعايير العالمية لرفع نسبة نجاح المشاريع، إلا أنه وللأسف الشديد كان التجاوب مخجلا للغاية.
وأقول: لماذا لا تتعاون البنوك مع صندوق المئوية ؟ ولماذا لا تدعم البنوك المنشآت الصغيرة في المملكة؟ لماذا وهي تغص بمليارات أصحاب المدخرات الذين يبحثون هم الآخرون عن فرص استثمارية لتنمية أموالهم ؟ الإجابة معروفة وبسيطة. فالبنوك المحلية بنوك تعمل في كل شيء وكأنها دكاكين فهي بنوك ادخارية واستثمارية والتمويل الإسكاني.. إلخ، حيث إنها تحقق أرباحا خيالية فاقت كل التصورات من النشاط الادخاري والذي لا يحتاج إلى كثير جهد وتفكير، فلماذا تنشط في الجوانب الأخرى التي تحتاج إلى التفكير وبذل الجهود من دراسات وبحوث وتنمية للبيئة الاستثمارية؟ بالتأكيد لا داعي فالأرباح محققة بأقل الجهود وأدنى درجات المخاطرة، فمدخر لا يرغب في فوائد ربوية ومقترض أكثر من مضمون يتحمل فوائد تراكمية عالية معادلة تحقق أكبر الأرباح والبنك في منتهى الراحة.
الوضع وإن بدا جميلا بالنسبة للنظام المالي، حيث البنوك المحلية بعيدة كل البعد عن خطر الخسائر والإفلاس مما يعني حماية أموال المدخرين، لكنه في حقيقة الأمر ذو آثار سلبية على المديين المتوسط والبعيد ذلك بأنه نظام لا يمَكن مجتمع الأعمال وخصوصا المستثمرين في المنشآت الصغيرة والمتوسطة من الوصول للسيولة التي تغص بها البنوك، وبالتالي فإن هذه المؤسسات لا تنمو كما هو مطلوب لتواكب معدلات نمو الطلب على الوظائف والخدمات والسلع مما يؤدى إلى فجوات كبيرة بين الطلب والعرض وتضخم بالأسعار، كما يحرم البلاد على المدى الطويل من تكوين شركات عملاقة تشكل أصولا اقتصادية في كافة القطاعات، نعم فمعظم الشركات الكبيرة تولد صغيرة إلا في حالات استثنائية نادرة، وإن شئتم ابحثوا في تاريخ أي شركة سعودية أو عالمية عملاقة في أي قطاع كان.
إذن غياب البنوك الاستثمارية المتخصصة أدى إلى خمول الأموال كمدخرات بدلا من نشاطها كاستثمارات تلعب دورها الحيوي في دفع عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية أيضا، نعم إن غياب البنوك الاستثمارية المتخصصة أدى إلى شح شديد في الآليات والأدوات المالية الاستثمارية مثل المضاربة والمشاركة والإجارة التي تدعم أصحاب الأفكار في تحويل أفكارهم إلى منشآت صغيرة، مما يحرم الاقتصاد الوطني من فوائد تلك المنشآت التي لا تعد ولا تحصى وفوت علينا فرصة الاستفادة المثلى من السيولة النقدية الكبيرة التي تغص بها البلاد دون فاعلية تذكر، بل إنها سيولة أدت إلى اختناقات كبيرة في سوق الأسهم واليوم تقودنا إلى اختناقات أخرى في سوق العقار وفي المضاربة على الأراضي تحديدا دون قيمة مضافة.
يقول لي أحد مديري الشركات عندما أتصل بأحد بنوك الاستثمار المنتشرة في دول الخليج أجد تجاوبا منقطع النظير ذلك بأن ربحية البنك قائمة على اغتنام تلك الفرص الاستثمارية، وعندما أتصل على مديري بنوكنا المحلية عادة ما يكون التجاوب خجلا وبطيئا، إذ إن بنوكنا قادرة على تحقيق أرباح كبيرة دون الخوض في هذا المجال الذي يحتاج إلى التفكير والتنظيم والابتكار والإبداع، ويعلق على ذلك قائلا تموت العيس ظمأى والماء على ظهورها محمول، نعم فالسيولة النقدية وصلت لأكثر من 620 مليار ريال ولا سبيل للوصول إليها بطريقة نظامية تحفظ حقوق كافة الأطراف وتحفز مجتمع الأعمال للتوسع في تأسيس وتطوير المنشآت التجارية والصناعية والخدمية خصوصا الصغيرة منها التي عادة ما تستوعب أكثر من 80 في المائة من الموظفين في دول العالم المتقدم.
ختاما، أقول إن النظام المالي الفعال هو عصب الاقتصاد، والنظام المالي القائم على هيكلة سليمة يحقق مصالح كافة الأطراف ويدفع بالاقتصاد إلى أعلى المستويات الممكنة وهو ما نصبو إليه جميعا، وكما قمنا بإعادة هيكلة السوق المالية بتأسيس هيئة السوق المالية وإصدار اللوائح التنظيمية والترخيص للشركات المالية لاستكمال منظومة المتعاملين في سوق الأوراق المالية بما يؤصل لسوق مالية ناضجة، أقول حان الوقت لأن ترخص مؤسسة النقد للبنوك التخصصية والحد من سطوة البنوك التي تعمل في كافة القطاعات المالية لننهض باقتصادنا الوطني ولنستغل تلك السيولة الكبيرة التي تنعم بها البلاد في تنمية كافة القطاعات الاقتصادية وبأسرع وقت ممكن لكيلا نندم حين لا تنفع ساعة الندم إذا أصبحت البلاد تعاني من شح في السيولة وشح في الفرص الوظيفية وتضخم في الأسعار وكل ذلك ما لا تحمد عقباه.