من الحكمة إعادة النظر في موعد توحيد العملة الخليجية

كلما اقترب الموعد المرسوم لتوحيد العملة الخليجية بحلول عام 2010 برزت في الأفق تساؤلات كثيرة حول مدى جاهزية دول مجلس التعاون لتحقيق ذلك الهدف، الذي كان ولا يزال حلما يراود المجلس منذ إنشائه بوصفه أكبر إنجاز يمكن تحقيقه لاقتصاد وشعوب الدول الأعضاء، ورغم أن الموعد كان يبدو بعيدا عند رسمه وإقرار جدوله الزمني في قمة مسقط عام 2001، وأن هناك من أبدى امتعاضا من هذا البعد، إلا أن السنوات أخذت تتصرم بسرعة قبل أن تتمكن دول المجلس من مجارات الجدول الزمني في استيفاء متطلبات هذه الوحدة، إلى أن تشجعت سلطنة عمان أخيرا وأعلنت على لسان وزير اقتصادها عن موقفها المتمثل في نيتها عدم الانضمام إلى الوحدة النقدية، وأن قرارها في ذلك نهائي، معللة ذلك بأن دخول العملة الخليجية يتطلب معاييرا اقتصادية ومالية عديدة، وهذه المعايير تحد من حرية اتخاذ القرار الاقتصادي، وأن الاتحاد النقدي سابق لأوانه في الظروف الراهنة بسبب المعايير الاقتصادية التي يتطلبها هذا الاتحاد، ومنها التضخم والعجز والاقتراض، وغيرها. ("الاقتصادية" 8/1/2007)، وقد سبب هذا الموقف إرباكا أو ارتباكا للخطة التي رسمها مجلس التعاون لتحقيق الوحدة النقدية! .. وكأن عمان، بهذا الموقف المفاجئ، قد سبقت غيرها إلى نفض الغبار عن ملفات هذه الوحدة، مكتفية بإرجاع الأسباب إلى أمور تخصها، دون أن تشير إلى ما بدأ يلوح في الأفق من أن الخطوات التنفيذية التي اتخذت في سبيل تحقيق هذا الهدف لم تواكب الآمال الكبيرة التي رُسم في ظلها الموعد النهائي، عندما طغى التفاؤل المفعم بالحماس على استشعار الحاضر واستشراف المستقبل في تلمس العوائق التي قد تبرز في سبيل تحقيق هذا الهدف!
ورغم ذلك فإن موقف عمان كان بمثابة رسالة قابلة للتأمل والاستيعاب من قبل دول المجلس مجتمعة، أو كل على حدة لمراجعة مسيرة الوحدة ومدى قابليتها للتنفيذ في الموعد المقرر، وقد بدا ذلك واضحا فيما نقل من أحاديث عن بعض المسؤولين عن هذا الملف الساخن، فها هو وزير المالية السعودي ينتهج الحكمة حين يرى "أن من الأفضل قطع خطوات أبطأ يجري تنفيذها بدلا من خطوات أكبر لا تقبلها بعض الدول، وربما تؤدي إلى الفشل ("الاقتصادية" 7/1/2007). ولم يختلف معه في هذا التوجه محافظ مصرف الإمارات، حينما أكد (أن دول الخليج مستعدة لقبول حل وسط لضمان انضمام الدول الست، وسنمضي معا ونسير دائما مع أبطأ شريك). ("الاقتصادية" 9/1/2007).
وتعزى أسباب التشكيك في القدرة على تحقيق الوحدة في موعدها، كما يراها المواطن العادي، إلى التباطؤ في تهيئة البيئة الاقتصادية والاجتماعية الملائمة لذلك، وأهمها تثقيف المواطنين حول إيجابياتها والفوائد التي ستعود عليهم من ذلك، إضافة إلى ما قد يكون هناك من سلبيات، فضلا عن إجراء البحوث والاستطلاعات الميدانية لاستجلاء وقياس مدى إيمانهم، أي المواطنين، بهذه الوحدة وموافقتهم عليها، وذلك لأهمية دور المواطن في قيام مثل هذه الوحدة، انطلاقا من كونه هو المعني بها! فضلا عن تصاعد الأهمية النسبية لهذا الرأي مع قيام برلمانات ومجالس يرى أنها تمثله، وأنه أسهم في وجودها، الأمر الذي لم يكن موجودا بوضعه الحالي عند إقرار الجدول الزمني للوحدة! وبالتالي فإن من الأهمية مراعاة ما ستقوله هذه البرلمانات والمجالس عند عرض موضوع الانضمام إلى الوحدة النقدية عليها.. يضاف إلى ذلك ما لوحظ من تباطؤ بعض الدول في العمل على توفير واستيفاء المتطلبات الاقتصادية لقيام الوحدة، وتحقيق الاندماجات التي تسبقها، وتفعيل القرارات والاتفاقات المحققة للتقارب، التي أقرها المجلس.. إذ ليس من المنطقي القفز إلى إصدار عملة واحدة، والمواطن الخليجي لا يزال ينتظر بالساعات للعبور من بلد إلى آخر بين الدول الأعضاء، وأنه لا يزال هناك من يشترط استخدام جواز السفر للعبور والحركة والسكن في الفنادق، ناهيك عما عاناه ويعانيه المواطن من متاعب عند محاولته الاستفادة من القرارات المتعلقة بالاستثمار وممارسة التجارة وشراء العقار، بما في ذلك ما يواجهه الاتحاد الجمركي من عراقيل!
يكثر الحديث عن المقارنة بالاتحاد الأوروبي في مسألة الاندماج في عملة واحدة ولكن عند ذلك، ينبغي ألا يصرفنا ما حدث من تفاعل وتجاوب مع هذا الاندماج إلى حد التضحية بعملات يمتد تاريخها إلى آلاف السنين، عن تأمل واقعنا، والفروق الكبيرة التي تفصلنا عن تلك الدول، في مستوى الثقافة والتعليم والإدراك، وحقوق المواطن، وممارسة الديمقراطية، ويأتي في مقدمة ذلك الوعي بمدى تأثير هذا الاندماج سلبا في متطلبات حياته عند إسقاطه على مجموعة المكونات الأساسية لتكاليف المعيشة! وقد كانت تلك العوامل من أهم الدوافع لتقبل الوحدة النقدية الأوروبية من قبل المواطنين وليس الحكومات، ومع ذلك فقد تنبه المواطن في بعض الدول، بعد التجربة، إلى خطئه في التعجل في الموافقة عندما اكتوى بتصاعدها مثل التضخم وأصبح يترحم على الأسعار في ظل عملته التي فرط فيها، فها هم الفرنسيون الآن يشعرون بالندم لتسرعهم في التخلي عن عملتهم انتظارا لنعيم لم يشعروا به، وها هي الدول الأخرى التي انضمت حديثا أو ستنضم إلى الاتحاد مترددة في مسألة الاندماج النقدي، ويساور المواطن العادي فيها الخوف من نتائج هذا الانضمام.
وإذا كان هذا هو ما يحدث في الدول الأوروبية، رغم ما ذكرناه من الفوارق الكبيرة، فإننا نستطيع التكهن بما سيحدث لدينا هنا في الخليج في بيئة تظللها أمية نسبتها مرتفعة، ووعي درجته أقل من القليل، وأنظمة اقتصادية وتجارية لا يزال بعضها ينتسب إلى القرن الماضي، وكيانات تجارية جشعة تتحكم في حياة المواطن وتحول بينه وبين الاستفادة من أي خفض في الأسعار يأتي من المصدر، أو حتى من المجلس ذاته في صورة خفض للضريبة الجمركية، ومن هذا المنطلق، فإن الوحدة النقدية في الخليج، على افتراض أنها تحققت في الموعد، فإنها ستفتح الباب واسعا للمنتفعين والمستغلين يخلقون منه مبررا لرفع مؤشرات التضخم وهم يسقطون الأسباب على العملة الوحيدة!
إن المواطن الخليجي يشعر أن هناك ما هو أهم وأدعى للتحقيق في الوقت الحاضر من توحيد العملة، مما سيكون أرضية صالحة ومناخا ملائما لتحقيقها فيما بعد، مثل التنقل الحر، وإزالة الحواجز لتكوين وحدة اقتصادية متكاملة، وتسهيل تطبيق ما اتفق عليه في هذا الإطار.
وبما أن اللجنة الفنية للاتحاد النقدي ستعقد اجتماعها المقبل خلال شهر آذار (مارس) المقبل، فإن من المنتظر أن يكون هذا الاجتماع مهما لأنه يأتي في مرحلة حساسة يمر فيها ملف الموضوع بمخاض، نرجو ألا يسفر عن ولادة مبكرة أو متعسرة!
والله من وراء القصد،،،

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي