المغول والعلويون يحضرون يوم ((إعدام صدام))

[email protected]

كان من عادة الآشوريين والبابليين التشفي بأعدائهم، فبعد عودتهم من القتال كانت تبدأ احتفالات إحراق الأسرى الذين لا يملك أقاربهم المال الكافي لافتدائهم. بين مظاهر الفرح والشماتة والقسوة، ويبدو أن هذه الأرض التي شهدت السومريين والبابليين والآشوريين، وشهدت جحافل المغول والتتار وهي تبني أهرامات من جماجم المغولين مرشحة دائمة للغليان والعنف، وهو العنف الذي يصحب الهزائم كما حدث مع الصفويين وقبلهم هولاكو، وقبلهم حروب العلويين ضد الأمويين.
لا أدري لماذا مرت هذه الخواطر برأسي وأنا أشاهد على الشاشة مشهد إعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين، في أول أيام عيد الأضحى.
لقطات متتالية تلخص ما وصلنا إليه وتحكي الكثير عما ظل مختفيا لقرون طويلة.
لم يخطر ببالي أن يصل التشفي والنزعة للانتقام ما صلت إليه، وعلى كثرة ما قرأت عن قتل الزعماء وإعدام القادة وإبادة المهزوم لم أتصور أن تتجمع جميع عناصر الشر في مكان واحد ووقت وواحد.
الرجل رفض طعام العشاء بعد إبلاغه أنه سيعدم في اليوم التالي، أي أنه عرف بنهايته المحتومة قبل 15 ساعة على الأقل، وهو تعذيب معنوي لا يصدر عن بشر يتحدثون عن محاكمة قانونية وحكم القانون وسيادة الديمقراطية.. إلخ.
وبعد أن اتخذ جورج بوش قراره بإعدام خصمه وخصم والده وأبلغ به اتباعه في بغداد، سارع هؤلاء إلى جعل المناسبة عيدا آشوريا بابليا حافلا. وتم نقله مع نهاية يوم وقفة الحجيج بعرفات إلى المبنى الذي سينفذ فيه الحكم. كل ذلك والرجل يسمع الأهوال والسباب والشماتة، حتى كانت الساعة الثالثة فجر عيد الأضحى، وبدأت إجراءات التنفيذ، وعلى امتداد نصف ساعة كاملة كانت اللحظات تمر ساعات بل أياما، ولست بحاجة إلى إعادة ما شاهده الملايين من هتافات واستفزازات من الجلادين الثلاثة، وخاصة أقصرهم طولا وأكثرهم كلاما الذي أنهى حوار وضع الغمامة السوداء بلف العصابة حول رقبته وسحبه إلى المشنقة، حيث بدأ تثبيت "الخيه" أو "العقدة" حول الرقبة في بطء يشي بمزيج من انعدام الكفاءة والضمير. ولم يفقد الرجل ثباته ولا رباطة جأشه، وصعق جلاديه بهدوء يحمل في ثناياه الشجاعة والقوة المعنوية وقبول قدره، ولعل محركي هؤلاء الجلادين في البيت الأبيض والبنتاجون كانوا أكثر دهشة، وكانت خطتهم أن يتولى اتباع مقتدى الصدر (وهو رغم شيعيته إلا أنه ليس أثيرا لدى أبناء العم سام) تنفيذ "العمل القذر" ليتحملوا وزره فيما بعد ويكون نواة لحرب أهلية تروم واشنطن من ورائها الخروج في غطاء سحابة دخان هذه الفتنة. لكن مثنى حارث الضاري قطع عليهم خط المؤامرة حينما قال إن من تجمعوا هاتفين شاتمين حول صدام لا يمثلون الشيعة، بل هم قلة موتورة، فضلا عن أن الكثيرين من أبناء السنة لاقوا الويلات على يد نظام صدام.
وطويت صفحة صدام حسين بعد نطقه مرتين بالشهادتين بصوت قوي، ووري في الثرى قبل 100 يوم من بلوغه السبعين، وانضم إلى ولديه وزوجي بنتيه وقد يلحق به بعد ساعات شقيقه برزان ليسطر قصة درامية متكاملة امتزجت فيها المأساة الإغريقية بكل مفاهيمها عن القدر والنصيب الذي لا بد أن يواجهه صاحبه والمأساة الشكسبيرية التي تحمل البطل الدرامي مسؤولية كل ما يحدث له، ويزيد المأساة احتقانا ذلك التناقض الحاد بين أيام السلطة والعزة والمجد وأيام الهزيمة والهوان والموت.
هذا عن الجانب المظهري فيما يتعلق برسم مشهد الساعات الأخيرة في حياة صدام وهي بحاجة إلى كتاب يعطي التفاصيل للأجيال. أما عن ردود الفعل فهي تعكس قصة أخرى وبها خير بيان عن حقيقة أسماك القرش الجديدة. فاليهود، الذين لا يعرفون شيئا عن العدالة لخصومهم – اعتبروا أن العدالة تحققت، وجميع رموز النظام الإيراني ترنمت وأشادت وطربت، ربما لأن ضربات صدام الموجعة لا زالت بقعها الزرقاء على أجسادهم وربما لأنه أسقط هالة حرصت طهران على تضخيمها حول قوة "الآريين" واحتلالهم في الماضي "لأوروبا" وأهمية دورهم في تشكيل المنطقة، كان صدام ولا شك حائلا دون تدفق هذه الخراطيم من مياه المبالغة، والذي يأخذ شكل الأسلحة النووية حاليا.
أما بريطانيا التي ألغت عقوبة الإعدام عام 1965، فلم يخجل مسؤولوها من التعبير عن سعادتهم "لإقرار العدالة" وخصصت أصوات أخرى إنجليزية وأوروبية للاستنكار خاصة الصوت الفرنسي الانتهازي الذي قال إن ذلك سيكون نهاية للآلام وبداية للآمال! وفي الولايات المتحدة الفاعل الرئيسي والمحرك الأوحد للقصة وما قبلها وربما ما بعدها نلمح مشهدا يشبه إعدام جيرنميو بطل الآباش والشايين من الهنود الحمر ولا يبتعد عن قتل العبيد السود بالملايين في معركة نقلهم عبر الأطلنطي ولا يفترق عن إبادة اليابانيين بالقنابل الذرية في هيروشيما ونجزاكي، ولكن موطن النشوة الحقيقي لدى جورج الصغير هو مشاهدة نتائج نورنبرج أمامه، فالأمريكيون يعتزون بمحاكمات المنتصرين، حيث ينصب المنتصر المشانق للمهزوم، وبدلا من الإعدام الصريح والمباشر، يتخفى الأمريكيون وراء أردية القانونيين وكتبهم وقوانينهم التي تصاغ حسب الحاجة فلديهم أعظم "ترزية قوانين في العالم" تقدمون ماركات عالمية تفوق العينات الفجة التي تقدمها الدول النامية، ومثلما حكمت نورنبرج بالإعدام على مقاتلين ومسؤولين ألمان مثل جورنج وربينتروب وزير الخارجية وكايتل رئيس الأركان (لاحظ أنهم موظفون يخدمون وطنهم) إلى جانب كالتنبرونر وأولريش جراف، وغيرهم، مع تخفيف الحكم على من انتقد زعيمه هتلر، فعل الأمريكيون بصدام ونوريجا وعشرات قبلهم سلمتهم لرجالها في نيجيريا وتركيا والبرازيل وإندونيسيا، لتعطي رسالة لكل حكام الدول الصغرى.
ويظل الهاجس السياسي ورقة مهمة في قصة صدام، ويرتبط أبديا بالسؤال: لماذا أعدم؟ ولماذا في هذا التوقيت؟
لقد أعدم صدام في دهاليز الأمريكيين قبل إعدامه الفعلي لعدة أسباب:
أولا: أنه هاجم إسرائيل فعلا بـ 39 صاروخا، وهي سابقة لا يسمح بها التحالف العضوي بين إسرائيل وأمريكا – ولاحظ أن هذا التحالف في ذروته الآن.
ثانيا: لأنه ارتكب حماقته الكبرى بهجومه الغبي على الكويت، وهو ما تعتبره أمريكا اقتحاما لمناطق حمراء ممنوعة.
ثالثا: أنه أمم نفط العراق قبل ذلك كله، وأذكر أن كوادر البعث كانت تشدو بهتاف "نفط العرب للعرب"، وكانت أمريكا في وضع لم يسمح لها بأن تفعل به ما فعلت بالدكتور محمد مصدق في إيران 1951.
رابعا: أنه تصدى بضراوة لكامب دافيد، وهي عملية تحقق لإسرائيل وأمريكا الكثير من الإيجابيات، ولقد كتب اسمه في القائمة السوداء منذ ذلك التاريخ، لكنهم صبروا عليه ليقوم بدور أهم هو ضرب إيران لحسابهم.
خامسا: أنه شريك في لعبة حرب قذرة ضد الأكراد والإيرانيين، وأمريكا تريد أن تنفض يديها من هذه اللعبة، كانت محاكمة الأنفال التي ستبدأ جلساتها فرصة هائلة ليروي فيها صدام ما حدث في مقابلاته مع أحد رموز الحرب على المنطقة العربية والإسلامية وهو دونالد رامسفيلد أيام حكم الرئيس ريجان. ولا شك أن مثل هذه الفضائح تقوض فرص الجمهوريين في الانتخابات القادمة.

أما الإجابة عن سؤال: لماذا أعدم الآن؟
فهي تتمثل في عدة أمور:
أولا: رغبة أمريكا في إثارة بعض ردود الفعل العنيفة لدى السنة تمهيدا لجعل 2007 عام الحرب الأهلية.
ثانيا: رغبة أمريكا في زيادة عدد قواتها لعدة أسباب:
أ - فداحة خسائرها التي تختلف عن رقم الثلاثة آلاف المعلن.
ب - الرغبة في إنهاء الحرب بالنسبة لها بسرعة.
ج - الخوف من أن انضمام كوادر جديدة للمقاومة سيؤدي إلى مزيد من الضغوط على القوات الحالية المجهدة بالفعل.
د - البديهية العسكرية القائلة إن مع طول فترة المقاومة وعجز المحتل عن قمع أصحاب الأرض، فإن فرص النصر تذهب لصاحب الأرض.
هـ - إنهاء أحلام بعض أبناء السنة بإعادة صدام باعتباره برغم كل مساوئه أفضل من الاحتلال الفاشل في كل شيء.
و - الخوف الكامن في نفوس الكوادر العراقية المتأمركة، حيث يصعب تصور خروج شبح صدام من قلوب وعقول رجال مثل الشلبي أو الربيعي أو المالكي أو الجعفري، أو إياد علاوي، ولعل موته يجعلهم يتنفسون الصعداء ويصدقون أنهم أصبحوا حكاما.
وهذه بداية مهمة تنشدها أمريكا لتحقيق التسوية.
ز- الغزل مع إيران لتحقيق تسوية تتيح خروجا كريما للأمريكيين مقابل تعهد الإيرانيين بالانضباط الإقليمي وإكمال برنامجهم النووي.
لهذا فإن إعدام صدام حقق أشياء كثيرة، منها التلاحم المتعطش للثأر بين الفكر البابلي الآشوري وبين المحافظين الجدد في الولايات المتحدة ومنها توهم فتح صفحة جديدة تتيح التسوية على مبدأ زلماي خليل زادة بإدخال البعثيين إلى ساحة العمل السياسي المسالم وهو ما يستحيل تحقيقه بوجود صدام على قيد الحياة، ومنها استرضاء إيران وتخويف الزعماء الإقليميين والثأر لإسرائيل وربما لقتل المالكي بإظهاره أنه "صاحب القرار الخاص بالإعدام لأنه وقع عليه" ويكون قتله إرضاء للسنة على غرار الأفلام الأمريكية التي تسعى لقتل الشرير. مع أن القاصي والداني يعلم أن الحكومات التي نصبتها أمريكا تحرص على الاستئذان قبل الإقدام على أمورهم الشخصية.
أما ماذا سيحدث؟ فالإجابة لدى ألستير هذريختون أحد رؤساء تحرير صحيفة "الجارديان" في السبعينيات الذي قال إن أسهل شيء لدى زعيم دولة – خاصة إذا كانت قوة عظمى – هو إصدار قرار، لكن الصعوبة كل الصعوبة أن يحقق هذا القرار الحكمة من اتخاذه، فالسياسة كأمواج البحر تتقلب وتحمل سفن البعض وتغرق البعض الآخر، وسنرى مع مسيرة الأيام تأثيرات هذا الحدث، لأنها تأثيرات مركبة تتجمع وتتراكم وتدفع وتفجر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي