الحصاد المُر: عام الفاجعة للمدخرات الفردية

[email protected]

من المفارقات المثيرة أن خسائر البورصات الخليجية هذا العام فاقت مجمل الإيرادات النفطية لدول الخليج العربية بمرة ونصف ! لكن من اللافت للانتباه أيضا، أن تكون نسبة تراجع مؤشر سوق المال السعودي الأعلى بين دول الخليج ( 53 في المائة)، في حين كانت أدناها في سوق المال الكويتي (12 في المائة). وإذا كان المراقبون الاقتصاديون يتفقون على أن أحد أهم أسباب هذه الكارثة يعود إلى طبيعة هذه الاقتصاديات التي تتصف بضيق الفرص الاستثمارية ما دفع بالسيولة الكبيرة الناتجة من عوائد النفط للتدافع في أسواق المال، إلا أن التباين الكبير في نسب الانخفاض بيننا وبين الكويت - على سبيل المثال - يمكن أن ينبهنا إلى الفارق في عدم التوفيق في تبني السياسات الاقتصادية الملائمة التي كان يمكن أن تجنب اقتصادنا هذه المأساة المروعة!
وإنها لمفارقة أن تسجل المؤشرات الكلية لاقتصادنا هذا العام أرقاما غير مسبوقة، في حين كانت النتائج الفعلية على المستوى الفردي كارثية. ففي حين بلغ الناتج المحلي 1.3 تريليون ريال، مسجلا نسبة نمو بنحو 4.2 في المائة، بلغت خسائر سوق الأسهم نحو 1.2 تريليون ريال، وفقد بعض الأفراد نحو 80 في المائة من مدخراتهم في هذه السوق. فليت شعري ما نفع اقتصاد كلي متعاف، في حين أن اقتصاد الناس كآحاد متردي؟ إنه وضع يستحق التأمل والدراسة والمراجعة! ولذلك سيبقى عام 1427هـ/ 2006م في ذاكرة السعوديين واحدا من أسوأ أعوامهم المالية على المستوى الفردي في تاريخهم الحديث.
فعلى الرغم من أن الاستثمار في أسواق المال غير مأمون العواقب، نظرا لارتفاع درجة المخاطر، نظرا لقيامها على المضاربات التي تزداد حدتها مع زيادة تجاهل المضاربين للحقائق المتعلقة بالقوائم المالية للشركات، إلا أن تطور وتتابع الأحداث في سوقنا منذ عام 2003م، كان يشير بوضوح إلى غياب - و في أحسن الأحوال- إلى تدني كفاءة السياسات الاقتصادية (المالية والنقدية) الحصيفة التي كان يمكن أن تجنب البلاد والعباد فداحة هذه الكارثة الوطنية. وقد أصبح ظاهرا للعيان أن تنامي عائدات النفط خاصة منذ عام 2003م كان يستدعي تبني سياسات اقتصادية جريئة وسريعة تعمل على إصلاح الخلل المتحجر في هيكل اقتصادنا، عن طريق توسيع فرص الاستثمار وإزالة العوائق البيروقراطية كافة وتوفير كافة الحوافز المؤثرة في قرارات رجال الأعمال على تبني مشاريع طموحة تمتص هذه الفوائض في أنشطة اقتصادية حقيقية منتجة تضيف للدخل القومي وتولد فرص عمل جديدة، بدلا من توجهها نحو مضاربات ضارة ومجهدة للاقتصاد على النحو الذي جرى.
وللأسف يبدو أن ذيول هذه الكارثة ستترك آثارا قاسية وضارة على القطاعين العائلي وقطاع الأعمال الخاص. إذ ستطارد هذه الكارثة نسبة كبيرة من الأفراد المكونين للقطاع العائلي وستلقي بظلال كئيبة على إنفاقهم الاستهلاكي، الذي يشكل نحو 30 في المائة من تكوين الدخل القومي، لفترة قد تصل إلى عشر سنوات مقبلة. وحيث إن الحياة الاقتصادية مترابطة يدفع بعضها ببعض، فإن تراجع الإنفاق الاستهلاكي سيؤثر بدوره على حيوية القطاع الخاص. ذلك أن انخفاض الإنفاق الاستهلاكي سيؤدي إلى إفلاس وخروج عدد من المؤسسات الصغيرة لينضم أصحابها إلى قافلة البطالة. وفي الوقت نفسه، فقد تُطال هذه الظاهرة بعض المؤسسات المتوسطة التي لا تستطيع مقاومة انخفاض المبيعات، في حين قد تشعر بعض المؤسسات الكبيرة بتراجع في حجم مبيعاتها، مما سينعكس على حجم أرباحها ويقلص إمكانات توسعها، ما يزيد من صعوبة قابليتها لتوليد فرص العمل الجديدة المتوقعة أمام الأعداد المتزايدة من فتية المجتمع الداخلين لسوق العمل. وبالفعل فقد دلت آخر بيانات التجارة الخارجية لاقتصادنا لانخفاض في أوزان الواردات خلال النصف الأول فقط من العام الجاري بنحو (14.1) في المائة، ما يؤكد المخاوف المتعلقة بتداعيات انخفاض حجم الإنفاق الاستهلاكي وأثره السلبي على بقية المناشط الاقتصادية!
وبذلك تضيف هذه الكارثة بعدا سلبيا آخر يعمق من جراح المشاكل الاقتصادية التي عانى ويعاني منها الناس أصلا منذ نحو عقدين من الزمان. فمن المتوقع أن ينضم إلى قافلة مشاكل البطالة وتدني الخدمات التعليمية والصحية والبلدية، خطر تضخم الأسعار التي بدأت تكشر عن أنيابها بقوة، مما ينبئ عن مزيد من التدهور في مستوى معيشة الناس. يقوي من هذه المخاوف ما أعلنه المسؤولون في مؤسسة النقد عن نيتهم استرداد بعض السندات الحكومية التي بحوزة البنوك، لإطفاء جزء من الدين العام. وهو إجراء سيؤدي إلى حقن الاقتصاد بمزيد من السيولة غير المناسبة لاقتصاد يعاني أصلا اختناقات في فرص الاستثمار، ما يمثل تناقضا صارخا مع السياسات النقدية المفترض اتخاذها في مثل هذه الحالات لكبح جماح التضخم.
وإنه لمن الخطأ الجسيم التقليل من أهمية الذيول الاقتصادية والاجتماعية لهذه النكبات و المآسي التي يجمعها عنوان أكل أموال الناس بالباطل، سواء كانت في سوق الأسهم أو في مساهمات العقارات أو في مساهمات البطاقات الهاتفية مسبقة الدفع أو سواها. كما أنه من قبيل تبسيط الأمور تصور أن هناك تحديات اقتصادية أولى وأجدر بالاهتمام من دوشة خسائر سوق الأسهم، بزعم أن المشكلة لا تعدو أن تكون سوى ظاهرة تقلبات معروفة في مثل هذه الأسواق. فحجم الكارثة وعمقها واستمرارها يشير إلى اختلالات هيكلية وتنظيمية وقانونية، يجعل المسألة أكثر من مجرد كونها تقلبات طبيعية في هذا السوق. ومن الخطأ ثالثا تصور أن خسائر سوق الأسهم هي مسؤولية فردية بالدرجة الأولى والأخيرة ولا تتحمل السلطات الاقتصادية أدنى مسؤولية عنها وعما جرى فيها. فهذا هروب من تحمل المسؤوليات وسوء فهم لمعنى السياسة الاقتصادية. صحيح أن المسؤولية مشتركة بين جميع الأطراف: السلطات المالية والنقدية وهيئة سوق المال والبنوك والمتعاملين بالسوق كبارهم وصغارهم، لكني أعتقد أن مَن يدير دفة السفينة يتحمل الوزر الأكبر. إن الكارثة الكبيرة التي وقعت على مدخرات الناس، وما سيتبعها من تدهور في مستويات معيشة غالب أهل البلاد، في وقت يتمتع فيه اقتصادنا بمؤشرات اقتصادية إيجابية، تدلل دلالة أكيدة وواضحة على ما سبق أن نبه عليه الكثير من المراقبين الاقتصاديين منذ بداية تنامي إيرادات النفط، من أن مأساة اقتصادية حادة ستنتظرنا إذا لم نتبن بصورة عاجلة سياسات اقتصادية سريعة وحصيفة وملائمة لهذه التطورات الاقتصادية المستجدة.
سيدخل عام 1427هـ/ 2006 م تاريخنا الاقتصادي، كأسوأ عام جرى فيه أعنف تخريب لشكل توزيع الدخول والثروات بين الناس. والمخاوف تتزايد من أن تظل للديون المهلكة والفقر والبطالة بقية من حياض تنادي: هل من مزيد؟
اقتصادنا على مفترق طرق، وهو بحاجة إلى بطل غير عادي لإنقاذه!

أستاذ الاقتصاد، جامعة الملك عبد العزيز

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي