عجيب أمر إخواننا اللبنانيين .. يخربون بيوتهم بأيديهم!
لا يوجد عربي يختلج جسده وينبض قلبه بدماء العروبة إلا ويتألم لما يحدث في لبنان، وما يعانيه المواطن اللبناني العادي من تشتت وضياع وفرقه على أرضه, بسبب تناحر فئة من أبنائه يسعون بتصرفاتهم لجره إلى حرب أهلية جديدة، وهو لم يكد يخرج من سابقتها لولا المساعي الخيرة للمملكة التي يعرفها اللبنانيون أنفسهم ويدينون لها، التي ما زالت آثارها ماثلة في العيان والبنيان.
ولا يختلف اثنان في أن مشكلة لبنان الرئيسة هي الطائفية التي اختلقها الاستعمار وغرسها في تاريخ لبنان ودستوره، بل جسدها فيما يجري من حروب باردة مستمرة بين أبنائه، ما تلبث أن تجد ما ومن يذكيها لتتحول إلى حرب مستعرة من القتل والاغتيالات والمصادمات، بحيث تحول شعار السياسة في هذا البلد الصغير حجما، الكبير جلبة وضوضاء، إلى أن البقاء فيه للأشطح، وليس للأصلح، أي الذي يشطح في آرائه ومواقفه وأفعاله، ويتقلب يمنة ويسرة بحثا عن الغوغاء لتأييده في الوسائل حتى وإن اختلف معهم في الغايات.
ومشكلة لبنان الأخرى أنه يضم من الساسة وادعيائها وطلاب الزعامة أكثر من حجمه وأكثر مما يحتاج، فضلا عن أن الوضع السائد فيه قلب كل اللبنانيين إلى ساسة، فسائق التاكسي والعامل البلدي لا يفتؤون يحللون الوضع السياسي، وربما يكون لديهم من الرأي ما هو أوفق لمصلحة لبنان من زعمائه، ولو تخلى الساسة عن دورهم لهذه الفئة لما وصل الوضع إلى ما هو عليه الآن. والمحصلة أن الكل يدعي وصلا بليلى، وليلى هذه لا تدري في يد من تكون، ولا من هو المخلِّص الذي يريد إنقاذها ممن يدعي الإخلاص، غير أنها تلمح الغدر والخيانة والأنانية في وجوه الكل ونواياهم، وتعلم أن الكل يدعي حمايتها ليستأثر بها لنفسه، بالضبط كما قد يحدث لفتاة لبنانية جميلة خطفها مجرمون فاندفع الكل لاهثا للإمساك بهم، ليس حماية للشرف والعدالة، إنما سعيا للحظوة منها.
منذ أن كنا ندرس في المرحلة الابتدائية حول مستوى التعليم والأمية في الوطن العربي، كانوا يدرسوننا أن نسبة التعليم في لبنان هي أعلى نسبة بين الدول العربية، وفي المقابل أن نسبة الأمية هي الأقل فيه، وكانوا يخبروننا أن التعليم يقود إلى الرقي والرشد في التفكير والإدراك والمفاهيم، ويسهم في صحة اتخاذ القرارات، وأن هناك ارتباطا وثيقا بين هذا العامل وبين ترسخ الوعي والسلوك الحضاري، وأنه كلما كان المرء متعلما كان ذلك أدعى لنضج تفكيره، ومعرفته حقوقه من حقوق غيره، بيد أن هذه النظرية والمفاهيم أثبتت فشلها في لبنان، طالما أن فئة المتعلمين هي التي تقود البلد إلى الخراب.
إن ما يجري في لبنان من تأجيج للمشاعر والنفوس، وحشو للأدمغة والرؤوس، بمشاعر البغضاء والكراهية والاحتقان، وإثارة وتأليب لفئة على أخرى لهو العبث بعينه، وهو أشد فتكا، وأسوأ أثرا من الحرب ذاتها، إذ إن من ينغمس في الحرب هو من يحمل السلاح ليقتل أو يُقتل، لكن ما ينغمس فيه الكل مباشرة أو من خلال ما يشاهدون ويسمعون، من تطاحن وافتتان يقوده الشيطان، ستبقى آثاره مزروعة في الوجدان، لا يمحوها الزمن وإن انمحت آثارها في العلن، ولن يكون الساسة وطلاب الزعامة بمنأى عن تلك الآثار المدمرة التي يورثونها لأبنائهم ويوصونهم بتوريثها لمن بعدهم.
لقد برع اللبنانيون في كل شيء، إلا قيادة بلدهم نحو الاستقرار والهدوء، برعوا في ابتداع مفاهيم السياسة والإدارة والاقتصاد لم يسبقهم إليها أحد، وأطلقوا شعارات تخص الكتل والفرق والتجمعات ضمن مفاهيم خاصة بهم، فالمناصب الوزارية والإدارية تقسم وتوزع طائفيا بصرف النظر عن كفاءة ونزاهة من يحتلها، فالمعيار الأساس هو ابن من، ومن أي طائفة؟ حتى جسّدوا أعظم المثل في فشل النظريات الإدارية التي تنادي بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك فالمناصب والوزارات تحدث للترضية ومن أجل التحكم، وليس لحاجة البلد، فهل يعقل أن بلدا مثل لبنان يحتاج إلى 30 وزارة ووزيرا؟ كل هذا من أجل أن تكون المناصب كافية للتقسيم على ذوي النفوذ، وأن يكون لكل فئة نصيب في التسلط وتركيز العَوَنة والأقارب، وتعطيل الوزارة وإجبارها على الاستقالة إن هم أرادوا، تحت شعار مبتدع آخر هو "الثلث المعطل"، أو الثلث الضامن، أو غير ذلك.
كان يمكن لاقتصاد لبنان أن يكون مزدهرا، وما على اللبنانيين إلا أن يسترخوا ويفتحوا مطاراتهم وحدودهم للناس، وبالذات جيرانهم العرب لتتدفق عليهم الخيرات من كل جانب، تماما مثلما حدث بُعيد استقرار الأوضاع بعد انتهاء الحرب الأهلية الأولى، فموقع لبنان القريب والمتوسط، وطبيعته الجغرافية والمناخية تعدّ عوامل جذب كافية لضمان استمرار تدفق ما في جيوب العرب وبخاصة الخليجيون!.. بيد أن العامل الأمني كفيل بإسقاط تأثير كل هذه العوامل، إن هو تلاشى أو سقط كما يجري الآن، وكما جرى من قبل بعد كل حادثة اغتيال، وإبان الحرب الأخيرة التي أكلت الأخضر والأصفر، والرطب واليابس..!
وأغرب ما يجري على الساحة الآن هو هذا التعطيل الكامل للإنتاج والأعمال ودفع الناس دفعا إلى التجمهر والاعتصام، وسد الطرق والمنافذ، وتأجيج المشاعر والتهديد باقتحام مؤسسات الدولة، وقطع شريانات الاقتصاد إن بقي فيها شيء ينبض، والأغرب هو هذا الإنفاق الباذخ على توفير متطلبات الاعتصام من خيام وما يتبعها، والتفنن في إقامة السرادقات التي يتسع الواحد منها إلى عشرة آلاف شخص إقامة ومنامة، والتي لم يظهر شيء منها أيام المحنة عندما كان الآلاف ينتشرون في الشوارع؟! ومع ذلك يشكون من تردي الوضع الاقتصادي وقلة ما في اليد، ويطلبون المساعدات؟! أليس المشردون من القرى المهدمة بيوتهم أولى بهذا الإنفاق؟
ألا يخشى اللبنانيون من تردد المتبرعين في مد أيديهم وهم يشاهدون ما يجري؟
ألا يخشون تأثير شعور الندم الذي حاق المستثمرين من غير اللبنانيين وهم يرون استثماراتهم تصفر فيها الرياح، بفعل من كانوا ينادون بهذه الاستثمارات، ويؤكدون لأصحابها حرصهم على المحافظة على توفير البيئة الآمنة الضامنة لتلك الاستثمارات؟!
ومع ذلك، وبعد ذلك، يتساءل اللبنانيون: أين العرب؟ لماذا لا يتدخلون بمساعي الصلح والتصالح، أين الوساطات والمقترحات والمبادرات العربية؟!
يقولون ذلك وهم يسرون ما لا يعلنون، يقولونه وهم يعلمون أن من يفتعل الخلاف من أجل تحقيق مأرب معين لا يوجد ما يثنيه عن تحقيق مآربه، ولو نزل عليه جبريل بالوساطة، بخاصة إذا كان يلوح بشيء مخيف في يده؟! يقولونه وهم أول من يعلم أن الدول العربية لا يمكن أن تجمع على محبة بلد كما تجمع على محبة لبنان، وحرصها على أمنه واستقراره، ويعلمون أن الأقوياء من الدبلوماسيين العرب تعبوا من الهبوط والإقلاع من مطار بيروت، وملّهم حراس المطار من كثرة ترددهم عليه، سواء كانوا في مبادرات فردية من بلدانهم، أو ممثلين لجامعتهم, التي ملّ أمينها هو الآخر من كثرة التردد حتى ملّه البعض وهو يردد مقولته الشهيرة (لا غالب ولا مغلوب).. ولم يستمع للشاعر العربي وهو يقول:
زر غبا تزدد حبا فمن أكثر الترداد أعياه الملل
وكأنه غائب عنه وعمن يمثلهم من هو المحق من غيره، ومن يشعل الفتنة ممن يطفئها؟! فلولا أن منصبه يحتم عليه أن يبقي حقيبة ملابسه جاهزة جوار باب منزله لآثر السكينة والبقاء جوار أسرته، واكتفى بالرجل المفعم بالشباب والحيوية ممثل السودان الذي لم يجد العرب غيره يقبل بهذه المهمة، لقدرته على تحمل الرحلات المكوكية، غير أنه يبدو أن اللبنانيين ربما شعروا، رغم ابتسامته الدائمة التي يواجه بها الفرقاء، بالامتعاض لصغر سنه، إذ كيف يرسل العرب شابا مثل هذا لترويض فرقاء يتجاوز عمر أصغرهم الستين، يعتقدون، بل يجزمون أنهم أكثر دهاء وقدرة على تتويهه بين مسارب أنفاق توهماتهم المظلمة؟!، فضلا عن شعورهم بأن رجلا لم يستطع حل مشكلة بلده المفتعلة، لن يقوى على حل مشكلة لبنان التي افتعلها ويديرها من هو أكثر دهاء منه؟َ!