الأوقاف وسوق المال
في منتصف شهر شوال الماضي أعلن وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف عن موافقة مجلس الأوقاف الأعلى على الإسهام بمبلغ 144 مليون ريال في شركة سعودية مساهمة لصناعة البتروكيماويات، وأشار الوزير في تصريحه إلى أن "إسهام الأوقاف في مثل هذه المشاريع الاستراتيجية الواعدة يأتي انطلاقاً من اهتمام الوزارة وعنايتها بالأوقاف الخيرية ورغبة منها في الاستثمار الأمثل لفائض غلال الأوقاف وتنميتها ... وإن الوزارة جادة في المضي قدماً نحو تطوير مناشطها في مجال الأوقاف لما فيه من إحياء لسنة من سنن الإسلام ".
إن متانة المركز المالي لبعض الشركات المساهمة السعودية يجعل أسهمها أحد الخيارات الجيدة في مجال الأوقاف. إذ يتميز هذا الخيار بأن ريعه يصل المستفيد وافياً كاملاً دون عناء أو مصروفات تقتطع منه, وهذه أمنية كل من أوقف مالاً لعمل الخير و إن كان يسيرا. ليس هذا فحسب، بل إن إجراءات متابعة وتدقيق إيرادات الوقف أكثر انضباطاً وشفافية عند التعامل بأسهم الشركات المساهمة حيث يجري هذا التعامل تحت سمع وبصر جهات رقابة متعددة.
بالطبع هناك الخيار التقليدي للأوقاف بشراء عقارات وما شابه. وبالرغم من تفضيل ذلك الخيار لدى السواد الأعظم من المحسنين لأسباب من بينها وجود خبرة تراكمية طويلة في التعامل معه وتوثيقه وكذلك دوره كعامل تطويري مهم له جوانب اقتصادية، عمرانية، واجتماعية، إلا أنه عادة ما يحمل في طياته إشكالات وصعوبات تتلخص في إدارة وصيانة تلك العقارات ومتابعة تحصيل إيجاراتها. ليس هذا فحسب، بل قد تتفاقم المشكلات إلى حال بائسة عندما تزيد مصروفات صيانة وإدارة تلك العقارات عما قد تدره من دخل. الأمر الذي قد يؤدي في بعض الأحيان إلى إهمال تلك الأوقاف والتخلي عنها وضياعها بالكامل مع مرور الزمن .. وهي بلا شك خسارة لكل الأطراف..
ولعل من تيسير الله تعالى لفعل الخيرات أمام عباده أن هيأ لهم آليات جديدة يمكن الإفادة منها في تحقيق مقاصد الصدقة الجارية. وتأتي السوق المالية في مقدمة تلك الآليات بما تحويه من عشرات الشركات المساهمة وهي كيانات اقتصادية لم تكن مألوفة في مجتمعنا من قبل. إذ يمكن لمن يشاء أن يمتلك أسهماً فيها ووقف ريعها لصالح المؤسسات والجمعيات الخيرية أو حتى الأفراد كصدقة جارية دون أي إرهاق لمستحقيها بدنياً أو نفسياً. ولئلا يلتبس الأمر على البعض فإن المستهدف من وقف تلك الصدقات في أسهم الشركات هو ريعها و ليس المتاجرة فيها، أي أن التذبذبات في أسعار تلك
الأسهم، وإن كانت حادة، لا تفسد مقاصد الوقف.
وكنت قد تطرقت لهذا الموضوع في "الاقتصادية" قبل عامين، ثم أعدت الكرة مرة أخرى في شهر رمضان الماضي, مبينا أن تفعيل آلية سوق المال كوعاء للأوقاف يتطلب عملاً مؤسسياً منظماً ترعاه جهة رسمية أو أكثر. ولاشك أن قرار مجلس الأوقاف الأعلى المشار إليه آنفاً في مطلع هذا المقال يعد خطوة موفقة ودفعة قوية في اتجاه ذلك العمل المؤسسي المطلوب. وليت المجلس يعزز تلك الخطوة بخطوات أخرى لنشر هذه الثقافة الجديدة في المجتمع وتيسير فعل الخيرات أمام المحسنين.
وفي هذا السياق قد يستحسن مجلس الأوقاف الأعلى تبني فكرة تأسيس صناديق "استثمار" تتولى استقبال صدقات المحسنين لشراء أسهم شركات معينة ووقف ريعها لصالح مستفيدين بعينهم سواء كان ذلك المستفيد مجالاً عاماً من مجالات الخدمة الاجتماعية كالرعاية الصحية، التعليم، أو رعاية المعوقين، أو كان المستفيد مسجداً، جامعة، أو مدرسة باسمها. كما أن قائمة المستفيدين يمكن أن تمتد لتشمل أسماء أفراد مُعّرفين مسبقاً من قبل الواقف. الشاهد هنا المرونة العريضة التي يمكن أن تقدمها تلك الصناديق في إدارة أوقاف المحسنين في إطار خدمة متكاملة تبدأ باستقبال صدقاتهم، مساعدتهم في اختيار الأسهم التي تلائم مقاصدهم من الوقف، تسجيله شرعاً، ثم متابعة صرف ريعه في الوجه الذي اشترطه الواقف.
إن إنشاء صناديق استثمارية لإدارة ما يوقفه المحسنون من أسهم في الشركات المدرجة في السوق المالية كصدقة جارية سيجذب شرائح كبيرة للإنفاق في الأعمال الخيرية ويفتح أبواباً واسعة لتمويل الأنماط الجديدة من احتياجات المجتمع.