أما آن لهذه الاحتكارات أن تترجل؟
ما زالت بعض الأنشطة في اقتصادنا تمارس بدرجات غير مقبولة من الاحتكار كالخدمات المصرفية، أو أنها تمارس من خلال احتكار شبه كامل كخدمات النقل الجوي الداخلي. وقد أزفت ساعة كسر شوكة هذه الاحتكارات من أجل دعم كفاءة هذا القطاع وجعله أكثر رشاقة وقوة. فمما استقر عليه العلم الاقتصادي ودلت عليه التجارب، أن الاحتكارات ضارة اقتصاديا ضررا بائنا، سواء كانت الجهة المحتكرة للنشاط مؤسسة حكومية أو خاصة. كما دلت التجارب أيضا، أن كل نشاط يمكن أن يدار بطريقة تجارية محضة، من المصلحة تركه للقطاع الخاص.
إن النمو المتواصل في عدد السكان وحجم الدخل القومي وزيادة الأنشطة الاقتصادية، تولد ضغوطا سنوية جديدة ومتتالية من الطلب على هذه الخدمات، مما آل في ظل هذه الأوضاع الاحتكارية أو شبه الاحتكارية، إما لعجز العرض عن مجاراة الطلب، وإما لارتفاع أسعار هذه الخدمات، وإما لتدني جودتها، وإما لفوات فرص النمو والتوسع في مثل هذه الأنشطة، وإما لكل هذه الآثار مجتمعة.
وخير مثال على فرص النمو المبكرة الضائعة والعوائد المحتملة المهدرة Potential Return، ما جرى عندنا في خدمات الاتصالات وقت زمنها الاحتكاري البائس، عندما كانت هذه الخدمات تقدم من قبل الجهاز البيروقراطي الحكومي وباحتكار كامل. فقد ضاعت عوائد وفرص نمو كبيرة، وقت أن كان زبائن هذه الخدمة، ممن لا يملكون خطا هاتفيا ثابتا، يلجأون إلى الهواتف العمومية المنصوبة على أطراف أرصفة الشوارع، فيجدونها إما متهالكة وإما متوقفة عن الخدمة، وإما في أحسن الأحوال لا يجدون العُملة المعدنية اللازمة لاستخدام هذه الهواتف في تلك المخادع المكشوفة التي لا تقي من عاديات الطقس ولا تحجب عن المستخدم صوت العابر من المركبات. ففي ظل العمل البيروقراطي الحكومي، والتنظيم الاحتكاري، وضعف المراقبة والمحاسبة، وانعدام الحوافز، كان يصعب اكتشاف حقيقة هذه الفرص المهدرة. وبالفعل فهي لم تكتشف إلا لاحقا عندما سُمح للقطاع الخاص بتشغيل حظائر (كبائن) الهاتف الثابت، فأدركت الشركة حينها أنها كانت تخسر جزءا من العوائد الموجودة والكامنة في السوق!
وتكررت النتائج السلبية المقيتة نفسها في خدمة الهاتف الجوال، سواء بالنسبة إلى التكاليف أو جودة الخدمات أو تنوعها، عندما كانت خدماتها محتكرة أيضا من قبل شركة واحدة. ولم يتنفس الناس الصعداء إلا بعد ظهور المنافس.
ويبدو أنه ما زال يصعب علينا سرعة التعلم، أو يعز علينا الاعتبار من تجاربنا الفاشلة، أو من تجارب غيرنا الناجحة، حتى أصبحنا مادة سائغة تلوكها الألسن، في المحافل الاقتصادية الإقليمية والعالمية، كنموذج للمجتمع الممعن في هدر الفرص والمتلذذ في تأخير اتخاذ القرارات الإدارية اللازمة في أوقاتها الصحيحة!
فمنذ أكثر من عقدين من الزمان ونحن نعاني مشكلة أخرى محزنة في مجال الخدمات الجوية الداخلية، إذ أصبح من الصعب على المرء أن يجد مقعدا على الرحلات الداخلية. وهي لعمرك فترة قياسية غير معهودة في تاريخ التصدي لفك اختناق خدمة أو توفيرها، وخاصة في تلك الخدمات التي يمكن أن تدار بمنهج ومنطق تجارى صرف! إن عقدين من الزمان، هو زمن كاف ليس فقط لفك اختناق في قطاع خدمي، بل هي كافية لتحويل مجتمع بأكمله نحو مشروع تنموي قومي متكامل. وهكذا، يمضى عقدان حيث تنتهي فيه آجال، و تولد خلاله أجيال، والناس يعانون صعوبات بالغة جدا في الحصول على حجوزات مؤكدة على خدمات النقل الجوي الداخلي باتجاه جميع المدن تقريبا، بل وأحيانا تنعدم حتى حجوزات الانتظار، مما يدل دلالة قاطعة إما على عجز كبير في قدرة خطوطنا الجوية السعودية على توليد العدد الكافي من المقاعد التي يتطلبها نمو الطلب، وإما على فشل إداري وتنظيمي مستمر لا تستطيع شركة طيراننا الوحيدة، بحكم قيود البيروقراطية شبه الحكومية، اتخاذ القرارات الاقتصادية والإدارية اللازمة للتصدي لمعاناة الناس!
إن فك هذا الاختناق لا يتطلب أكثر من قرار بفتح باب المنافسة في مجال الخدمات الجوية الداخلية. فمما دلت عليه التجارب وسبق لبقية أهل الأرض العلم به، أن كل نشاط إنتاجي مولد لسلعة أو خدمة يمكن أن تباع وتشترى بثمن تحدده السوق، يجب أن يترك للقطاع الخاص لأنه سيديره بكفاءة أعلى، سواء من ناحية توفير الكم اللازم من العرض الذي تتطلبه السوق، أو من ناحية إدارة تكاليف الإنتاج أو أسعار المنتجات أو مستوى جودتها. إنه لمن المحزن فوات هذه الفرص التي يقدمها لنا اقتصادنا على أطباق (ولا أقول على طبق واحد ولا أقول أيضا إنها أطباق من ذهب), وإنما هي أطباق من ألماس، ثم نكابر بتفويتها وبتأخير اتخاذ القرارات اللازمة لاقتناصها في وقت يعاني فيه الناس قصورا طال أمده في توفير هذه الخدمات، وفي وقت تمضي فيه سنون زهرة شبابنا وهم يعانون بطالة ظاهرة كان يمكن امتصاص بعضها، لو تدبرنا الأمر وأسرعنا في منح القادر والراغب من رجال الأعمال، امتياز تكوين شركات طيران خاصة لتغطية عجز "الخطوط السعودية" عن توفير العرض الكافي من خدمات النقل الجوي الداخلي. إن في خدمات النقل الجوي الداخلي فرصا ظاهرة لنشاط مربح يغري للاستثمار، وفي السوق الأمريكية تكسب شركات الطيران من الرحلات الداخلية أكثر من الخارجية، وفي دول حولنا أصغر سوقا هناك شركات طيران خاصة غير الشركة المملوكة للحكومة!
ينبغي أن نلاحظ أن مسألة تخصيص "الخطوط الجوية السعودية" لا يحل هذا الإشكال. إن التخصيص قد يرفع من كفاءة عمل المؤسسة في بعض الجوانب الاقتصادية والإدارية الداخلية، لكنه لا يقضي على مشكلة السوق الموجودة خارج المؤسسة المحتكرة. إن حل هذا الاختناق يستدعي أكثر من مجرد تحويل ملكية المؤسسة من ملكية عامة إلى خاصة. إنه يستدعي تغيير هيكل السوق بزيادة المنافسة فيها. لذلك سنترك مسألة التخصيص ليمعن المعنيون والمختصون النظر، كل النظر، في دراسة الأمر وتقييمه وتقليبه على أي وجه أرادوا، وليستغرقوا من الزمان في دراسته ما رغبوا وشاءوا. لكن تزايد صعوبة حصول الناس على مقعد شاغر في كل وقت وتحت أي ظرف وبشكل مستمر ومتصاعد، يتطلب على الأقل مجرد اتخاذ قرار اقتصادي بالسماح بتكوين شركات طيران خاصة يمكن أن تخدم جميع شرائح المجتمع لا الخيالة منهم فقط !