الزحام ليس قضية مرور
تصوروا لو لم تكن مدينة لندن بلا قطارات أنفاق، تصوروا مونتريال، القاهرة، نيويورك، شيكاغو، بوداسبت، وغيرها من مدن كبرى في العالم تعج بأنواع وسائل المواصلات من الحافلات إلى القطارات وسيارات الأجرة، بالتأكيد كانت ستعاني زحاما كارثيا يعطل سير الأعمال ويزهق نفوس البشر بالكمد والغم والصراخ والشجار .. غير أن تلك المدن الكبرى تحاشت معظم ذلك بقطارات الأنفاق وبرسم مسارات لحركة المرور، قادرة على استيعاب كل التدفقات اليومية والمتنامية لترحال البشر عبر الشوارع والأزقة.
مدننا الكبرى في السعودية، خصوصا الرياض وجدة أصبحت مكتظة بقدر هائل من السيارات فوق طاقة احتمال شوارعها التي تزدحم بطوابير لا نهائية منها لا تنفع معها معالجات وقتية كسد منافذ الدخول للطرق السريعة أو الرئيسية أو التلاعب في تحويل اتجاهاتها أو تحويل مساراتها.
إننا بحاجة إلى حل استراتيجي جذري شامل بمنظور طويل الأمد يبدأ من اللحظة وعينه على سنوات طوال ستتضاعف فيها أعداد السكان وبالتالي أعداد عرباتهم. وهو حل عناصره لا تخفى على أحد وقد لجأت إليها الدول سواء من خلال قطارات الأنفاق أو القطارات المعلقة السريعة أو الأرضية مع الحد من تدفق السيارات الخاصة والشاحنات في بعض المناطق فضلا عن إعادة هيكلة الشوارع وضبط حركة المرور وتعميق دور الأنظمة والقوانين الخاصة بالسير.
أعلم كما يعلم غيري أن هناك خططا ومشاريع وبرامج لإنقاذ الموقف ومعالجة الأزمة غير أن حبال اللجان والجهات المعنية طويلة، والجدل وتنازع الآراء في الاجتماعات بين الأعضاء وأهل الاختصاص يستهلك وقتا دهريا في المذكرات المتبادلة بين الإيضاح والتعقيب والتفسير وتحبير المحاضر بعد المحاضر.
ربما يستدعي الأمر تشكيل لجنة طوارئ عليا بجدول زمني محدد وصلاحيات نافذة يطلب إليها وضع خطة طموحة لحل أزمات المرور حلا عمليا يستوعب متطلبات الحاضر والمستقبل أيضا.
ربما على مجلس الشورى أن يطرح هذه القضية الوطنية العويصة للنقاش ويقترح لها الإطار الرسمي والمالي والبشري والزمني، فقد سال حبر كثير في هذه القضية من زوايا متعددة من مختصين وكتاب ومسؤولين وقراء متفاعلين معها، ومنذ سنوات وسنوات ونحن نسمع فقط بأن الاقتراحات والأطروحات محل اهتمام وتحت الدراسة ومازلنا .. "لا رحنا ولا جينا"!!
لا تشكل قضية الزحام في مدننا الكبرى عوائق مؤذية لتحركات المواطنين تحول دون قضاء أعمالهم ومصالحهم اليومية فحسب، لكنها تذهب أبعد من ذلك فهي تحفر ندوبا وأخاديد نفسية وجراح معنوية غائرة في وجدانات الناس جراء انحباسهم لساعات في محشر الشوارع، في لهب الصيف أو قارص الشتاء مكبلون بسلاسل قلقهم على أولادهم وذويهم وبيوتهم وأعمالهم التي يقصيهم الزحام بعيدا عنها تاركا إياهم يعلكون مرارة نكدهم ويتجرعون تنهداتهم غصصا.
هذا الوضع المأزوم للناس بين محشر زحام الشوارع وشطط رعونة بعض السائقين يأخذ الناس شيئا فشيئا إلى الجانب المظلم من القمر، ثم يقذف بهم إلى جحيم الكآبة وطاعون السأم، يفقدهم الرغبة في العمل والإقبال على الحياة، يطفئ فيهم جذوة الحماس ويردم بتراب الزهق والطفش مسارب الروح فلا تتنفس إلا غبارا ولا تشم إلا عفنا.. وهو سياق مع الزمن مروع، لأنه يفقدنا من ناحية قوانا الخلاقة المبدعة، ومن ناحية أخرى، قد يجرفنا أو البعض منا إلى الجنوح للعنف والاستهتار بقوانين المجتمع وأعرافه وتقاليده والبحث عن الخلاص الشخصي بلا حرج ولا حياء قد لا يقف عند حدود، وقد يتحول إلى ظاهرة اجتماعية مرضية تتطلب آنذاك علاجا من نوع آخر أشد تكلفة وتعقيدا من أزمة الزحام .. لها أعراضها المختلفة التي تبدأ بالصراخ والشجار، ثم العنف، ولا تنتهي بالسطو والسرقة وما لا حد له من ترديات خلقية تشاهد ونسمع بعضا منها في مدن غرقت بالزحام فغرقت بالجريمة كما في بعض دول أمريكا اللاتينية مثلا!
قضية الزحام ليست قضية مرورية وحركة سير وإنما هي قضية حضارية تتقاطع مع الثقافي والاجتماعي، المادي والمعنوي، الخاص والعام، الوجدان والعقل، الأمن وما يعكر صفوه، ومع الحاضر والمستقبل، والمطلوب "هبّة وطنية" تضع هذه القضية على طاولة العمل "الآن .. الآن .. وليس غدا".