بطالة اقتصاديات الخليج

" في يوم ما سوف يذهب أحفادنا إلى المتاحف ليروا كيف كان الفقر"
(محمد يونس - جريدة الإندبندنت - 5 مايو 1996)
كثيرة هي الأفكار التي دارت في مخيلته وهو على متن الطائرة العائدة به إلى مسقط رأسه بعد حصوله على درجة الدكتوراة في الاقتصاد. كيف يمكن لأكاديمي اقتصادي الإسهام في بناء وطنه بعد أعوام عديدة من حروب التحرير و الاستقلال؟
لم يقطع حبل الأفكار سوى صوت ارتطام عجلات الطائرة بمدرج المطار معلنة وصولها، وبدأ مباشرة البروفيسور محمد يونس عمله أستاذا ورئيسا لقسم الاقتصاد في جامعة شيتاجونج البنجلادشية، ليبدأ معها عملية تحويل أفكاره إلى واقع ملموس.
لم يمض سوى عامين حتى حدثت مجاعة في بنجلادش حصدت قرابة المليون ونصف المليون من السكان، معلنة تفاقم مشكلة الفقر والظروف المعيشية الصعبة. سأل نفسه عدة أسئلة في ظل هذا التناقض العجيب بين الجانب النظري والواقع العملي: كيف أستمر في تدريس الطلاب النظريات الاقتصادية داخل قاعات الحرم الجامعي، وأبناء شعبي، يموتون جوعا على أرصفة الشوارع خارج الحرم الجامعي؟ كيف أتمكن من تسخير الجانب النظري للقضاء على مشكلة الفقر؟
بدأ البروفيسور محمد يونس رحلة القضاء على مشكلة الفقر برحلات ميدانية مع طلابه إلى قرية جوبرا، أشد القرى تضررا من المجاعة. عقبت هذه الرحلة رحلات ميدانية أخرى إلى قرابة 40 قرية للوقوف على المشكلة والالتقاء بالفقراء لمعرفة احتياجاتهم. تمخضت هذه الرحلات عن خلاصة مفادها أنه متى ما توافر التمويل المناسب للفقراء دون ضمانات، وفوائد، فإنهم سيتمكنون من إنشاء أنشطة تجارية من شأنها أن توفر القوت اليومي، ناهيك عن مد يد العون.
وبالفعل، دشن البروفيسور محمد يونس مشروعا يهدف إلى توفير التمويل المالي المناسب لفقراء بنجلادش، مع الاستمرار في متابعة نتائج التمويل عن قرب طيلة عامين دراسيين والرجوع إلى النظريات الاقتصادية في محاولة لإيجاد آلية تمويل مناسبة من شأنها القضاء على مشكلة الفقر.
تطور مشروع تمويل الفقراء ليعم معظم محافظات بنجلادش حتى تحول بمساعدة الحكومة البنجلادشية في عام 1983م إلى مصرف جرامين عن طريق مساهمة الحكومة البنجلادشية، والفقراء المستفيدين من المشروع بنسبة 60 في المائة، و40 في المائة، على التوالي، من رأس المال. تطورت نسب المساهمة في رأس المال خلال الأعوام الماضية لتصل إلى 6 في المائة، و94 في المائة، لصالح الحكومة البنجلادشية، والفقراء المستفيدين، على التوالي.
عمل مصرف جرامين تحت مظلة إستراتيجية فريدة من نوعها أسهمت في إيصال المصرف إلى ما هو عليه الآن. لعلي أقتبس مقتطفات من خطاب مدير حملة قمة تمويل المشاريع الصغيرة، سام دايلي هاريس، والذي ألقاهـ خلال افتتاح القمة التي نظمتها المجموعة الهولندية المالية ING في العاصمة الهولندية أمستردام خلال شباط (فبراير) من العام الحالي.
وأوضح هاريس استراتيجية مصرف جرامين، نقلا عن البروفيسور محمد يونس، كالتالي:
"لم تكن لدي استراتيجية، لقد اكتفيت بالقيام بالخطوة التالية. لكن عندما نظرت إلى الوراء فأدركت أن استراتجيتي كانت تقضي بالقيام بعكس ما كانت تقوم به المصارف تماما. وبالتالي، إذا قدمت المصارف القروض إلى الأغنياء، أقدم القروض إلى الفقراء. وإذا أقرضت المصارف الرجال، أقرض النساء. وإذا قدمت المصارف قروضا مالية كبيرة، أقدم قروضا مالية صغيرة. وإذا طلبت المصارف ضمانات، أستثني قروضي من الضمانات. وإذا طلبت المصارف كما من المستندات، كانت قروض مؤسستنا موجّهة لمساعدة الأشخاص الأميين. وإذا كان ينبغي على العملاء التنقّل للذهاب إلى المصارف، فكان مصرف جرامين متواجدا داخل البلدة. نعم كانت هذه استراتيجيتي. كنت أقوم تماما بعكس ما كانت تقوم به المصارف".
استراتيجية فريدة من نوعها تلزمها آلية تنفيذ فريدة من نوعها أيضا. لعلي أقتبس من مقال الدكتور صالح السحيباني في جريدة "الاقتصادية" (مصرف الإنماء والدور الاجتماعي المأمول - 11/03/1427هـ) حول آلية تنفيذ استراتيجية مصرف جرامين:
"يستهدف البنك الناس الأكثر فقرا ويرتكز في عملية التمويل على منح القرض لمجموعة تتكون من خمسة أفراد يتم اختيار بعضهم بعضا على أساس الثقة والكفالة المتبادلة ضمانا للوفاء بالدين، وبعد اجتياز برنامج تدريبي يتضمن شرحا وافيا لقواعد و نظم المصرف وانتخاب رئيس للمجموعة وسكرتير لها يتم تسليم القروض لعضوين في المجموعة "غير الرئيس والسكرتير" كمرحلة أولى، و بعد المتابعة لمدة شهرين يتم تسليم عضوين آخرين ليس فيهم رئيس المجموعة، ثم بعد مرور فترة مشابهة يتم منح القرض لرئيس المجموعة".
لم تكن تجربة البروفيسور محمد يونس و مصرف جرامين سوى إحدى التجارب التي تناولتها، بالنقد و التحليل، القمة العالمية للقروض الصغيرة، والتي اختتمت أمس الأول في مدينة هالفاكس الكندية. ضمت القمة قرابة ألفي شخص من المهتمين والداعمين لفلسفة القروض الصغيرة من قرابة 100 دولة للوقوف على آخر المستجدات، والتطورات، والتحديات التي تواجه تحقيق الهدف الرئيس من القمة، والمتمثل في توفير الدعم المالي المناسب لـ 175 مليون عائلة فقيرة في جميع أنحاء العالم بحلول عام 2015.
صدر عن القمة التقرير السنوي حاملا في طياته العديد من الإنجازات والتحديات التي حققتها القمة، وواجهتها منذ أن اختتمت دورتها الثانية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2005 في العاصمة التشيلية ساندييجو. صدر التقرير باللغة الإنجليزية، وضم ترجمة لخلاصته في عديد من اللغات، من ضمنها اللغة العربية http://www.globalmicrocreditsummit2006.org.
وعلى الرغم من أن التقرير أوضح في طياته العديد من الإنجازات التي قدمتها العديد من المؤسسات والهيئات لدعم القمة في تحقيق هدفها الرئيس، إلا أن التمثيل الخليجي لم يكن بحجم التوقعات والآمال سوى من تواجد برنامج الخليج العربي لدعم منظمات الأمم المتحدة الإنمائية (أجفند) من خلال المشاركة المالية والمعنوية. يقودنا هذا التمثيل المتواضع إلى العديد من التساؤلات حول جدية دول الخليج في مكافحة مشكلتي الفقر والبطالة واللتين بدأتا أخيرا تلوحان في أفق اقتصادياتها معلنتين تحديات جذرية في العقد المقبل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي