جامعة الملك عبد الله .. فجر جديد

[email protected]

اختص الله سبحانه وتعالى بقاعاً من الأرض قّـّدر لها أن تكون مسرحاً لأحداث شكّلت جزءاً من إرث وتاريخ مجتمعات تخطتها في المكان والزمان، وأحسب أن من بين تلك البقاع "خيمة أم معبد". تلك الخيمة التي نزل بها النبي, صلى الله عليه وسلم, في طريق هجرته من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وقد اشتهرت في كتب السيرة باسم صاحبتها "أم معبد" الخزاعية التي هبطت البركة عليها وعلى أهلها عندما دعا عليه الصلاة والسلام بشاة لها ضعيفة منهكة، فمسح ضرعها وذكر اسم الله، وقال: "اللهم بارك لها في شاتها", فدر ضرع الشاة، وشرب كل من كان هناك حتى رووا.
اليوم وبالقرب من مكان "خيمة أم معبد"، تشهد بقعة من تراب الوطن الغالي إرهاصات بركة أخرى من الله سبحانه وتعالى ستدر منافع عظيمة لمستقبل هذه الأمة ورسالتها الخالدة. إذ انطلقت في الأسبوع الماضي الأعمال التمهيدية في الموقع الذي تم تخصيصه لإنشاء جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية في الجزء الشمالي من قرية "ثول" على ساحل البحر الأحمر. ويبدو أن الموقع قد اختير بعناية فائقة راعت معايير مهمة في مقدمتها توافر مساحة كبيرة لتوسع الجامعة ومناشطها لعقود طويلة, بإذن الله، عدم وجود عوائق أو ملكيات خاصة، القرب من وسائل مواصلات جيدة كالطرق السريعة والمطارات، والبعد عن المصادر التقليدية المحتملة للتلوث.
فمن جانب المواصلات تمر بمحاذاة الموقع شبكة جيدة من الطرق السريعة التي تربطه بكل من: جدة، مكة المكرمة، المدينة المنورة، رابغ، وينبع، إذ لا تستغرق رحلة الطريق على سبيل المثال إلى مطار الملك عبد العزيز الدولي أكثر من ثلاثة أرباع الساعة، وكذا الحال إلى مكة المكرمة، أما الوصول إلى مدينة الملك عبد الله الاقتصادية في رابغ فلن يزيد زمن رحلته على نصف ساعة فقط. ومن مزايا موقع الجامعة أن له إطلالة جميلة على شواطئ بلورية وجزر بحرية بكر لم تصل إليها بعد أيدي العبث ما يجعلها بيئة صالحة لبعض ما ننتظره من علماء المستقبل من أبحاث تخدم الوطن وثروات أجياله.
بالطبع يلعب الموقع الجيد دوراً أساسا في نجاح المنشأة أياً كانت طبيعتها. ولا شك أن قرب موقع الجامعة من مراكز حضرية كبيرة كجدة ومكة المكرمة سيوفر لها خيارات واسعة لاستقطاب كوادر مؤهلة وعينات طلابية مميزة من الداخل والخارج. أما القرب من مدينة الملك عبد الله الاقتصادية في رابغ، فمن المؤمل أن يثري الجامعة بفرص كبيرة للأبحاث والاحتكاك مع شركات عالمية ذات باع طويل في ذلك المضمار. ويجب ألا نذهب بعيداً للبحث عن تلك الفرص، إذ إن الجهة المنفذة لمشروع الجامعة تعد أكبر شركة منتجة للنفط في العالم، شركة أرامكو السعودية، ولها سجل مرموق في تمويل وإدارة أبحاث تطبيقية جادة, ولاسيما في مجال صناعة النفط والغاز ومشتقاتهما، ما يجعلها شريكاً استراتيجياً للجامعة يمكن الاعتماد عليه في أداء رسالتها.

هناك عوامل أخرى، إلى جانب الموقع الجيد، لا بد من توفيرها لمشروع الجامعة كي تتحقق تطلعات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وآمال كل مواطن في أن نستعيد دورنا في بناء الحضارة الإنسانية بمفهومها الشامل. من بين تلك العوامل اختيار الإدارة المبدعة, وهذه الخطوة تبدأ باقتناص "قائد أو بطل" للمشروع أو ما يسمى في علم الإدارة باللغة الإنجليزية Champion، وعادة ما يكون "البطل" ذا مواهب قيادية، له سجل مهني يثبت قدرته على العمل والإنجاز في ظروف صعبة غير عادية. وأضيف إلى ذلك صفة أخرى مطلوبة في ذلك "البطل" أن تكون لديه أحلام كبيرة لمستقبل هذا الوطن وثقة بقدراته. وكي لا يلتبس الأمر على القارئ الكريم فإن المقصود هنا بالبطل ليس رئيس أو مدير الجامعة بل الشخص الذي ستُسند إليه، تحت إشراف شركة أرامكو السعودية، مسؤولية بلورة فكرة مشروع الجامعة إلى واقع ملموس.
أما العامل الآخر إلى جانب الموقع والإدارة فهو وفرة الموارد المالية بشكل مستقر. وكنت قد بسطت ذلك في مقال سابق في ("الاقتصادية" بتاريخ 26/8/1427هـ) ضمنتّه مقترحاً بتخصيص حصة صغيرة نسبياً من محفظة صندوق الاستثمارات العامة (صندوق الأجيال ) كوقف ينفق من ريعه على إنشاء الجامعة وتشغيلها مستقبلاً. وأود هنا أن أضيف إلى ذلك مقترحاً آخر لتعزيز موارد تلك الجامعة وألتمس من مقام خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز أن يتفضل بالأمر بحجز أكبر قدر ممكن من الأراضي البيضاء المجاورة للجامعة كوقف لها. والهدف من وقف تلك المساحات الإضافية منح الجامعة مصادر دخل متعددة سواء كانت من استثماراتها في السوق المالية أو في التنمية العقارية. ويعد ذلك المزيج من الاستثمارات تقليداً راسخاً في تمويل الكثير من الجامعات الراقية في العالم كجامعة هارفارد وجارتها جامعة إم.آي. تي.MIT, التي يضرب بها المثل في دراسات وأبحاث العلوم والتقنية, وهي الأهداف ذاتها لجامعة الملك عبد الله. وربما يكفي هنا أن أشير إلى " ميدان التقنية" Technology Square في مدينة كامبردج الأمريكية الذي يحتضن مراكز أبحاث لشركات كبرى في تقنية المعلومات والتقنية الحيوية بنيت جميعها على أوقاف تملكها جامعة إم.آي. تي.MIT وتُدر لها دخلاً متنامياً عدا فرص البحث العلمي لمنتسبيها في تلك المراكز. لقد أثبتت تلك الاستراتيجيات المالية قدرتها على الحفاظ على حيوية وفعالية مؤسسات علمية ذات شأن على مدى قرون من الزمن، ولعل من الحكمة الإفادة من تلك التجارب الناجحة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي