الهجمة الأوروبية على الإسلام والمسلمين

[email protected]

منذ أقدم العصور كانت الحروب والاختلافات الدينية إحدى حقائق الحياة. وأشرس الحروب التي شهدتها البشرية كانت تلك التي أشعلتها المعتقدات. فالجميع يعتقد أنه يمسك بناصية الحق، أما الآخرون فكاذبون ومدعون. كانت حرب عبادة آتون في مصر القديمة والتي أتى بها اخناتون منقلبا على عبادة آمون واحدة من أهم حقب الصراع في التاريخ المصري القديم وعبادة "بعل" التي نقلت هاميلكار وولده هانيبال إلى قرطاجة من بلاد الفينيقيين إلى جانب عبادات نبوخذ نصر البابلي وعبدة النار وغيرهم، فالقائمة طويلة.
ومنذ فترة قصيرة تطالعنا من وقت لآخر زوبعة في أوروبا ضد الإسلام، لم يكن الأمر كذلك منذ مائة عام أو خمسين عاما، ولكن زيادة معدل حدوثها تفرض علينا الوقوف للتعرف على الظاهرة. فهذه مشكلة الحجاب لدى طالبات مسلمات في فرنسا، رفضت المدارس منحهن حق ارتداء ما يتناسب مع معتقداتهن حسب الدستور الفرنسي الذي يترنم ليل نهار بالحرية والإخاء والمساواة، وتكررت القصة في ألمانيا وبريطانيا وعدد كبير من الدول الأوروبية، وكنا نقول إن المسألة لا تتعدى صراعا بين مدرسة لها نظمها ورغبة لدى الطالبات بالالتزام. ولكن ظنوننا كانت خاطئة، لأنه سرعان ما تصاعدت الحملة ضد المسلمين لتشمل أ‘ز وأخص الرموز، والتي وصلت إلى ذروتها بالرسوم الكاريكاتورية الدنماركية التي سخرت من شخص الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل وبلغ السيل الزبى عندما تواصلت الحملة بإلقاء الزيت على النار ليتوغل الدنماركيون وهم شعب علماني لم يعرف لهم تاريخ في الغيرة الدينية أو الصراعات المذهبية.
بل إن جولة واحدة في كوبنهاجن كفيلة بإقناعك أنها بؤرة تطرف أخلاقي، حيث يباع اللحم البشري علنا في نوافذ المحال .. وحيث تجد أقل عدد من الكنائس في أوروبا إذا ما قارنتها بدول مثل إسبانيا، إيطاليا، فرنسا، وشرق أوروبا، حيث تعرف الأحياء بأسماء الكنائس، وتعد هي التحفة المعمارية والمعلم السياحي. أما الدنمارك فقد قفزت فجأة لتسحب العناوين الرئيسية في سب الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم، ويصل الأمر بإحدى زعيمات المعارضة إلى أن تعتبر هذا التقويض والتطاول ورقة عمل وبرنامج حزب ستنال به شعبية كبيرة. وهنا لا بد وأن يتساءل العقلاء: لماذا هذه الحملات والكراهية العارمة للمسلمين؟ ولماذا تترجم إلى حملات سب ووقاحة؟ ولماذا اختار أعداء الإسلام الدنمارك كمحطة إطلاق أولية للنداءات؟ يرجع السبب في اختيار الدنمارك إلى حالة الحرية بلا حدود التي تتمتع بها دول إسكندنافيا وهي السويد، النرويج، فنلندا، والدنمارك، وهذا المناخ يغري أصحاب المخططات باللعب والضرب، ولا يكلف الأمر إلا اختيار الفاعل والناشر. من ناحية أخرى، هبت على الدول الإسكندنافية موجات هجرة من العالم الإسلامي، خاصة من دول المغرب العربي، وبدأ مرض رهاب الأجانب Xenophobia يستشري في البلاد، مما أغرى العناصر الصهيونية وهي قديمة عهد بالحياة في الدنمارك ولها جذورها وصحفها بأن يثير الفتن وفق المخطط العالمي الذي تتبناه إسرائيل وأمريكا بتحميل الإسلام وزر كل ما يؤرق أمريكا. فهي تسمي جميع أنشطة المسلمين سواء في الدفاع عن أراضيهم المحتلة في العراق وفلسطين وأفغانستان بالإرهاب وتتحدث عن الحرب والانضباط ودور القوات الدولية (قوات أمريكية متنكرة) في إقرار عالم جديد وواقع جديد حتى ولو كان الثمن 700 ألف قتيل عراقي، فقتل هؤلاء مع أحداث جوانتانامو وأبو غريب لا علاقة لها بالقمع والإرهاب، وعبر آلة دعاية مهولة لم تنجح واشنطن في إقناع أحد بالحقائق المقلوبة، فانطلقت لإشعال الحرب عبر المناطق بحيث يأتي وقت يجد المسلمون فيه أنفسهم منبوذين تماما باعتبارهم لا يسعون إلا إلى تدمير الغرب لأنهم "يحقدون على حضارته ويكرهون تطوره ويمقتون أنماط حياته" ولا يتحدثون عن السرقة المنتظمة للموارد الطبيعية للدول الإسلامية والعربية. ولذلك فنحن نرى في اختيار الدنمارك ساحة اختبار للعداء الثقافي مقدمة لنشر ثقافة الكراهية وسبيلهم إلى ذلك التحريض على قيام نفر منهم بالتطاول وتبرير ذلك بأنه الحرية، وأن المسلمين يكرهون الحرية ولذلك فهم يستغربون "الآراء" التي يطرحها الدنماركيون "المتفتحون"، وإذا كانت الهجمة الدنماركية بمثابة هجوم بالأسلحة الخفيفة فإن هجوم البابا دليل على أن الأمور أكبر والتحريض أشمل، وأن حسابات الغرب ارتدت بضعة قرون إلى الوراء لتقامر على ضرب الإسلام كدين وتحطم رموزه ووسمها بالقوة والإرهاب، ويكفي أن يعود هؤلاء إلى الحروب الدينية المسيحية بين الكاثوليك والبروتستانت في إنجلترا وإيرلندا ويراجعوا عدد الملوك الذي شنقوا أو قطعت رؤوسهم لأسباب دينية، ليدركوا أن الإسلام بعيد كل البعد عن الفظائع التي ارتكبت بانتظام وعلى امتداد قرون طويلة باسم الصليبية والمسيح سواء في إطار الحروب الصليبية أو حركة الكشوف الجغرافية أو حركة الاستعمار العالمية .. إلخ.
ونود أن نلفت النظر إلى البابا بنديكت السادس عشر يعرف ما يفعل، فهو ليس حبرا متبتلا غارقا في الأدعية والروحانيات ولكنه حاكم دنيوي في الوقت نفسه يرأس دولة. وكما يقول الكثير من أحبار المسيحيين أن البابا ليس أفضل أسقف أو كاردينال وأنه لا يعبر عن رأي المسيح على الأرض كما يروق له أن يتصور ولكنه رئيس صارم لمؤسسة شمولية لا تقبل الحوار وهو ملك مطلق مستبد لديه حكومة علمانية في الفاتيكان ويمتلك أموالا طائلة خارجها بحيث يعتبر أغنى أغنياء الأرض لأنه المتصرف الأوحد دون منازع في المليارات التي تتكدس في بنوك العالم. وبصفته الدينية يخيف معارضيه ويقنعهم بأنه المتفرد والمتميز ومن ثم وجب استعلاؤه، وتواضعه الظاهر ما هو إلا جزء من شكليات اللعبة فالرجل يمتلك أراضي دولة ويهيمن على كرادلة وسفراء في أنحاء العالم، ولديه قوة أمنية من الجواسيس ولديه جهاز تشريعي ونظام قضائي وقوانين وإعلاميين ويجبي الضرائب ويمتلك البنوك ويعقد المعاهدات ولديه طموحات كثيرة ويستفيد من الحكام الكاثوليك الذين يوقرونه ولا يجرؤون على انتقاده، وبهذه الصلاحيات فإن له نفوذا يفوق أي أمير مدني أو رئيس دولة. ويدير دوره الروحي جنبا إلى جنب مع دوره المادي (وهو هائل وكبير)، وهو يزعم أنه منزه عن الخطأ وأن العالم بأسره يعترف له بذلك وتقبل صلاحياته كافة.
ويقول الباب بنفسه: "لا يوجد استئناف أو نقض لقرارتي" وهذه التسلطية لا تراها في الأمور الدينية فقط ولكن في كل الأمور الدنيوية التي يتولى مسؤوليتها.
ويحيط الفاتيكان نفسه بهالة من الغموض وسحابات دخان متوالية، ولا يعبأ بالمصلحين الدينيين الكبار الذين تعاقبوا على تاريخ المسيحية، مثل ويكليف وهاس ومارتن لوثر وتندال وكالفن وكرانمر ولاتيمر وريدلي وبرادفورد وفوكس وبنيان ونيوتن وإدواردز ووزلي وهواتيفيليد وسبيرجيون ورايل، على سبيل المثال لا الحصر، فهو يبدد إنجازاتهم ليبقى لاعبا فريدا يمسك بالقرار، ولا يختلف اثنان على أن بابوات روما في هذا الزمان يتوقون للأيام الجميلة حينما كانوا بمثابة آلهة ويسيطرون تماما على الملوك ويقلبون العروش فهل يكون اتساع العالم الإسلامي، والقوة التي يكتسبها المسلمون مبررا لهذه الزوابع، التي سنواجه نماذج منها بين فينة وأخرى. أم إنها ظاهرة عارضة سرعان ما تنتهي، هذا ما ستجيبنا عنه الأيام.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي