الشعير .. قضية لا بد من معالجتها

يُعد الشعير الغذاء الأساس للثروة الحيوانية في المملكة، ومن ثم فإن أي نقص في إمداداته أو ارتفاع في أسعاره مدعاة للقلق، لما لذلك من تداعيات اقتصادية واجتماعية تلقي بظلالها على شرائح عريضة من المجتمع. وما يزيد في دواعي القلق أن الإمدادات والأسعار مرتبطة بسوق عالمية تكاد تشبه التجمع الاحتكاري "الكارتيل" في آلياتها تعمل بعيداً عن سيطرة الدول المستهلكة ومن بينها المملكة. ليس ذلك فحسب، بل إن حصة المملكة بمفردها من تلك السوق تبلغ نحو 40 في المائة تقريباً، ما يضعها هدفاً سهلاً للاستغلال بأشكاله بالرغم من التباعد الجغرافي بين المصادر الرئيسة لإنتاج الشعير وهي أستراليا، أوروبا الغربية، وأمريكا الشمالية.

إن قضية الشعير ليست جديدة، إذ تمتد إلى أكثر من ثلاثين عاماً مضت عندما باشرت الدولة في تقديم إعانات مالية سخية لدعم أسعار سلة كبيرة من السلع الاستهلاكية المهمة كا لأرز، السكر، الزيوت النباتية، حليب الأطفال، وغيرها، كما شملت تلك القائمة الأعلاف بأنواعها، وعلى رأسها الشعير. وقد تم تقليص تلك الإعانات تدريجياً إلى أن ألغيت بشكل نهائي على جميع السلع المعانة عدا الشعير والذرة وفول الصويا، وإن اختلف مقدار الإعانة المقدم لها من فترة إلى أخرى. لكن اللافت للنظر القفزات الكبيرة التي اتسمت بها واردات المملكة من الشعير خلال الفترة 1976 - 2006م، إذ تضاعفت عشرين مرة تقريباً لتبلغ في العام الماضي 2005م وحده نحو خمسة ملايين طن.

لم تكن المفارقة الوحيدة بين الأمس واليوم الزيادة الهائلة في حجم الاستيراد. بل شهدت تجارة الشعير تغييرات جذرية في أسلوب شحنه بحرا، وكذا مناولته في الموانئ السعودية، ما أفضى إلى تحقيق وفورات كبيرة للاقتصاد الوطني على نحو مباشر وآخر غير مباشر. في ذلك الحين كانت أستراليا المصدر الوحيد تقريباً لشحنات الشعير القادمة للمملكة، إلا أنه كان لا بد لتلك الشحنات أن تُنقل أولاً إلى سنغافورة بشكل سائب لتعبئتها في أكياس ثم إعادة تحميلها وشحنها إلى ميناءي جدة الإسلامي والملك عبد العزيز في الدمام. وهي كما ترون مناولة مكررة للبضاعة نفسها رتبت تكلفة إضافية إلى أسعار الشعير تحملتها في النهاية الخزينة العامة للدولة ضمن الإعانات التي كانت تُصرف لمستوردي تلك السلعة. ويكمن السبب لتلك المناولة المضافة في أن موانئ تصدير الشعير والحبوب الأخرى في أستراليا وغيرها تقتصر تجهيزاتها في العادة على معدات شفط، رافعات، وسيور ضخمة لتحميل سفن الشحن السائب بمعدلات عالية، وتنأى تلك الموانئ بنفسها عن عمليات التكييس لبطئها وتدني إنتاجيتها.

وقد تنبهت المؤسسة العامة للموانئ إلى ذلك الخلل في أسلوب شحن الشعير مكيساً عبر موانئ وسيطة أخرى، وما واكب ذلك النمط في النقل من تعطيل لأرصفة الموانئ، وحبس أعداد كبيرة من المستودعات، المعدات، والأيدي العاملة. لذا بادرت المؤسسة في عام 1984م بتجهيز الموانئ السعودية بمجموعة من معدات تفريغ الحبوب السائبة ما شجع المستوردين على التحول الكامل خلال عامين فقط إلى الشعير السائب بدلاً من استيراد الشعير المكيّس. وقد نتج عن ذلك التحول الكثير من الإيجابيات، لعل أبرزها: خفض تكلفة الشحن إلى النصف، خفض تكلفة المناولة في الموانئ إلى الربع، رفع إنتاجية التفريغ أكثر من خمسة أضعاف ما زاد عملياً عدد الأرصفة المتاحة في الموانئ لمناولة بضائع أخرى، الاستغناء عن أعداد كبيرة من العمالة الأجنبية، وتوفير مبالغ طائلة كانت تصرف على شراء رافعات شوكية وطبال بوتيرة مكثفة. وهكذا أثمرت تلك الخطوة في التحول من استيراد الشعير المكيّس إلى السائب مزايا جمة للموانئ ووفورات كبيرة للاقتصاد الوطني، إذ انخفض السعر النهائي للشعير المعروض في الأسواق يومئذ إلى مستويات غير مسبوقة، وأصبح في متناول المستهلك بأقل من السقف الذي حددته الدولة، وبالتالي لم تعد هناك حاجة لصرف إعانة للمستوردين في تلك الفترة.

غير أن قضية الشعير لم تنته هناك، إذ ظلت الأسعار في السوق العالمية ترتفع عاماً بعد آخر بسبب تراجع الإنتاج في الدول المصدرة إلى نحو النصف تقريباً والتأثيرات المناخية على المحاصيل الزراعية حول العالم بشكل عام. ومن ثم لم تجد الدولة بداً من تقديم إعانات سخية مرة أخرى لمستوردي الشعير لضمان وصوله إلى المستهلك بأسعار لا تزيد على سقف محدد مسبقاً كان قبل عدة سنوات (18) ريالاً للكيس، أصبح لاحقاً (20) ريالاً. ثم زيد في الآونة الأخيرة إلى (23) ريالاً. وبالرغم من تلك الزيادة في الأسعار، إلا أنها لا تعكس التكلفة الحقيقية لقيمة الشعير المستورد؛ إذ تقدم الدولة إعانة قدرها (12.5) ريال عن كل كيس، أي ما مجموعه (1250) مليون ريال سنوياً وهو رقم مرشح للزيادة كلما زادت الكميات المستوردة أو السعر العالمي. لقد قفزت الأسعار العالمية للشعير من (140) دولاراً للطن تقريباً إلى (212) دولاراً للطن في فترة وجيزة، ثم إلى (250) دولاراً للطن في الآونة الأخيرة، والحبل على الجرار.

بالطبع لا أعرف أحداً يجادل في الأهمية الاستراتيجية لدعم قطاع الثروة الحيوانية، وبذل كل ما يمكن تقديمه للمحافظة على استقراره ونموه. لكن هناك من يرى أن استمرار اعتماد الثروة الحيوانية في المملكة على الشعير مصدراً وحيداً للتعليف أمر لا يدعو للاطمئنان على مستقبل هذه الثروة لاعتبارات اقتصادية واستراتيجية. وقد يكون من الحكمة المبادرة في تنويع الأعلاف المستخدمة بجانب الشعير وبشكل متوازن، إذ من المؤمل تحقيق وفر كبير في الكميات المستهلكة، وتوزيع مخاطر الاستيراد على مصادر متعددة لا تخضع للسيطرة ذاتها التي تحكم تجارة الشعير.

إن تغيير النمط السائد في غذاء الثروة الحيوانية في المملكة يتطلب حملة توعية واسعة تدعمها حوافز مادية تُقدم كإعانات للمدخلات البديلة تجعلها أكثر جاذبية لمربى الماشية عما ألفوه. وأحسب أن جهداً كهذا سيكتب له النجاح بإذن الله، إذ أصبح المواطن واعياً بما يدور حوله ولم يعد هناك بيت إلا وبه جهاز استقبال تلفزيوني، لكن الأهم من كل ذلك أن تنويع مصادر الأعلاف لثروتنا الحيوانية يجعلنا أكثر اطمئناناً على مستقبلها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي