هل توحد المسلمون من جديد؟

<a href="mailto:[email protected]">drashwan59@yahoo.com</a>

تؤكد الأحداث التي تتابع على العالم منذ وقوع هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 على واشنطن ونيويورك أن هناك تغيرات كبيرة يمر بها العالم كله تنبئ عن ولادة عالم جديد لم تتبلور ملامحه النهائية بعد. وقد استفاضت كتابات وتحليلات غزيرة في وصف تلك التغيرات وهذه الملامح طوال السنوات الماضية مما جعل معظمها يبدو بالنسبة للمتابع العام والمتخصص أكثر وضوحاً في مكوناته وتطوراته. وقد ركزت معظم تلك الكتابات والتحليلات على التغيرات التي لحقت بالرؤى والاستراتيجيات الغربية وبخاصة الأمريكية تجاه العالم وبصفة أخص العالم الإٍسلامي. وجرى تركيز آخر على ما لحق بعلاقات هذين الطرفين من تغيرات رئيسة في السنوات الخمس التي تلت الهجمات، فضلاً عن تركيز أخير على ما جرى في بعض بلدان ومجتمعات العالم الإٍسلامي من تغيرات داخلية جراء السياسات الغربية والأمريكية الجديدة وردود الأفعال عليها من سياسات الدول المسلمة.
وعلى أهمية كل تلك التغيرات وآثارها على العالم ونظامه السياسي والقانوني والعالم الإسلامي وتطوراته الداخلية والخارجية، فإن تغيراً آخر مهماً يخص هذا العالم الأخير بدا أكثر غياباً عن معظم التحليلات والكتابات. ويتعلق هذا التغير بتصور المسلمين في مختلف مجتمعاتهم وبلدانهم عن أنفسهم في ظل العديد من التطورات الدولية التي نتجت عن هجمات أيلول (سبتمبر) والسياسات الغربية التي تلتها. ومن الواضح أن تلك السياسات وخاصة الحرب الأمريكية على "الإرهاب" بكل فصولها ومراحلها المتلاحقة قد ولدت بين هؤلاء المسلمين بمختلف فئاتهم الاجتماعية وخلفياتهم الثقافية والسياسية ومناطق تواجدهم الجغرافية شعوراً مشتركاً بالخطر والتهديد أفرز بدوره شعوراً آخر متنامياً بالتوحد في الهوية والمصير. فمجريات تلك الحرب وبخاصة عدم تحديد المقصود بهذا "الإرهاب" الذي تستهدف القضاء عليه، أدت إلى اتساع مفهومه من جانب من خططوا للحرب ويقودون مراحلها لكي يشمل في كثير من الأحيان الثقافة الإِسلامية نفسها والجماعات الإِسلامية بأصنافها المختلفة كافة ونظم التعليم والسياسة في البلدان الإسلامية ناهيك عن القيم والهياكل الاجتماعية فيها وأخيراً تعاليم الدين الإسلامي نفسه وبعضا من أصوله وعباداته وتشريعاته. وقد أدى هذا الغموض والاتساع في تعريف "الإرهاب" إلى أن يشمل كل تلك المحاور على الصعيد السياسي, والعسكري والأمني العملي إلى إشعار المسلمين في مختلف دول العالم أن كل ما يتعلق بوجودهم الاجتماعي والديني والثقافي والسياسي قد أضحى مهدداً بالتغيير القسري في أفضل الأحوال أو بالتدمير المنظم في أسوأها.
ولم تكن تلك المشاعر وليدة أوهام أو خيالات مرضية في عقول مئات الملايين من المسلمين في مختلف بلدانهم ومجتمعاتهم على التباعد الجغرافي الكبير بينها، بل أكدتها لهم السياسات والتصريحات الغربية وخصوصاً الأمريكية التي اتبعت تجاههم. ولعل أبرز ما أثر في عقول ومشاعر المسلمين, أن يكتشفوا أن العالم لم يشهد في السنوات الخمس التي تلت هجمات أيلول (سبتمبر) وإعلان الحرب الأمريكية على "الإرهاب" أي حروب سوى تلك التي شنتها واشنطن وحلفاؤها ضمن تلك الحرب الأوسع على بلدان كلها تنتمي إلى العالم الإسلامي. وقد تم احتلال أفغانستان ومن بعدها العراق بواسطة القوات الأمريكية ثم قامت إسرائيل بدعم أمريكي كامل وعلني بشن حرب غاشمة واسعة على لبنان في الوقت الذي واصلت فيه دون انقطاع اعتداءاتها على الشعب الفلسطيني وتدمير هياكله السياسية وبناه التحتية في غزة والضفة الغربية. وفي الوقت الذي تتواصل فيه الحروب الأمريكية والإسرائيلية والغربية في تلك البلدان الإسلامية، يرى المسلمون أن هناك استعدادا أمريكيا وتحريضا إسرائيليا وتواطؤا غربيا عاما من أجل شن حروب جديدة ضد دولتين مسلمتين أخريين يجري التحرش بهما هما إيران وسورية. أثناء كل ذلك, يرى المسلمون أنه لم يبق من محاور الشر التي حددتها الإدارة الأمريكية سوى الدول المسلمة التي تم العدوان عليها أو يجري الاستعداد له، بينما يتم التفاوض مع دول أخرى كانت مدرجة فيه دون تعرضها لأي عدوان ومنها كوريا الشمالية بالرغم من استمرارها في تنفيذ برنامج تسليحها النووي.
كل تلك الظروف والأوضاع المحيطة بالعالم الإسلامي ودوله ومجتمعاته كانت هي الباعث الرئيس وراء انبعاث تلك المشاعر الموحدة للمسلمين في كل مكان من العالم بالتعرض للخطر نفسه وبالتالي الشعور بأنهم عادوا ليكونوا "أمة واحدة" ينتظرهم المصير نفسه. وربما تكون هذه هي المرة الأولى منذ سقوط الخلافة الإسلامية الأخيرة التي مثلتها الدولة العثمانية عام 1924، التي يستعيد فيه المسلمون هذا الوعي الجماعي العالمي بأنهم "أمة واحدة" عليهم الواجبات نفسها ويتعرضون للمخاطر نفسها وينتظرون المصير نفسه. وقد ظهرت تجليات هذا الشعور الجديد المتصاعد عدة مرات خلال السنوات الخمس الأخيرة، لعل أبرزها ذلك التضامن الواسع بين المسلمين على اختلاف أماكنهم الجغرافية في الاعتراض الواسع على الرسوم الدنماركية المسيئة إلى رسول الإسلام الكريم، ثم موقفهم الحالي الرافض بحزم إلى تصريحات بابا الفاتيكان المسيئة لبعض عقائد الإسلام وشرائعه وسيرة نبيه الكريم.
هذا التغير الجديد الجوهري في الوعي الجماعي الإسلامي, والذي ينعكس بصورة متواترة على سلوك غالبية المسلمين في صورة معظم الشعوب وبعض الحكومات، لا يجب أن يغيب عن ناظري أي تحليل لما يجري في العالم اليوم من تغيرات كبرى ولا عن أي استشراف لما ينتظره من تطورات حاسمة في المديين المتوسط والبعيد. وبهذا المعنى، فإن وضع مواقف المسلمين وردود أفعالهم في حسبان أي صانع للسياسات أو أي مصدر للتصريحات التي تمسهم وتمس مصالحهم وعناصر وجودهم, لا بد أن تكون قوية، وإلا فإن بعض من تلك السياسات وهذه التصريحات قد يؤدي إلى خلق أزمات بل وصراعات كبرى تهدد السلم والاستقرار الدوليين. ومن هذه الزاوية يجب إعادة النظر في الأزمة الحالية التي خلقتها تصريحات بابا الفاتيكان والأبعاد التي يمكن أن تصل إليها في المستقبل القريب.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي