الكتابة الساخرة .. عسى العود "أحمد" وليس "أمحق"
النقد عموما صفة مطلوبة ومرغوبة عند كل الشعوب تعبر عنه (بالحش ... القيل والقال) .. ويتناول الظواهر السلبية بعد تضخيمها وتهويلها وتبهيرها حاذقا ومضيفا بدون وجل .. والكتابة الساخرة عرفت بأنها أيضا كتابة ناقدة على الدوام تتناول مثل (القيل والقال) والجوانب السلبية الظاهرة، ومعالجتها للظاهرة أكثر التزاما وحذرا ودقة وصدقا لأن لها أبا يساق للحساب (بلا حساب) .. لهذا فإن الكاتب الساخر (الذي يؤثر السلامة) يركبه الخوف فيأكل تبنا و"يسكت" أو يأخذ "تبرا" ويصمت فالسكوت من ذهب.
والنقد الساخر يتعامل مع الظواهر السلبية سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو إدارية فاضحا الوجه القبيح للظاهرة مما يزعج المسؤول عنها خصوصا وأن النقد الساخر أكثر قبولا وانتشارا من النقد الجاد الصارم المتجهم ..
وفي أوائل هذا القرن نشطت الكتابة عموما بعد تكون مجتمع عرف القراءة والكتابة وكانت الحياة الاجتماعية والثقافية أقل تعقيدا، ولا يوجد ما يملأ فراغ المثقفين والمتعلمين عموما سوى هواية (القراءة).
وكان سقف الحرية عاليا والناس طبقة واحدة متجانسة تحولت تدريجيا إلى طبقة (نخبة) فيها الغني والمليونير والملياردير وطبقة (مستورة) فيها الفقير والأجير وركاب الحمير .. وأصبح الكل رئيسا والكل مرؤوسا منتظمين في سلسلة المنبت عنها ميت أو متقاعد.
ولكن بعد انتشار الإعلام المسموع والمشاهد من إذاعات، محطات فضائية، "كمبيوتر" – إنترنت – كرة قدم، أقمار صناعية – نجوم بشرية، وسياحة في القارات الخمس، جعلت القراء يهتمون بالنجوم الكروية والنجوم الفنية سائحين في الأرض شرقا وغربا .. وما بقي بعد ذلك من القراء أصبح "كالعملة الصعبة" كما أصبحت الكتابة الساخرة نادرة (كالعملة الأثرية) خصوصا بعد الهزائم العسكرية والسياسية والثقافية المتتالية للأمة العربية الذي كان (إعلام دولها) يبشر بالنصر والظفر وكانت النتيجة ويلا وثبورا بدد الآمال وأحبط الأحلام وأشاع اليأس .. مما جعل الكتابة الساخرة تندر ندرة الشعر الجميل.
وكانت تجربتي الشخصية مع الكتابة الساخرة بدأت تحت عنوان "لقافة" في صحيفة "الرياض" ثم "المجلة العربية" من عام 1965 .. وأخذت هذا الأسلوب لما شعرت أن (القراء) يرغبون هذا اللون من الكتابة .. فبدأت أرصد "الظواهر السلبية" في جميع المجالات وأعالجها بأسلوب ينطبق عليه أسلوب حصان امرئ القيس "مكر مفر مقبل مدبر معا" ولكن لست مثله (جلمود صخر) فأنا لحم ودم وعندي عقل يمسكني من (أن يدفعني السيل إلى أسفل سافلين).
وتوقفت عن الكتابة الساخرة في السبعينيات حيث شغلتني (الوظيفة) بواجباتها الكثيرة ثم دراسة الماجستير المسائية التي استمرت سنوات وبعد ذلك أصبحت كالتي مات زوجها ولم تتزوج غيره ـ لأنه لم يتقدم لها أحد ـ وليس هناك خطاب ولا أحباب .. وفي التسعينيات أصبحت صحافيا قابعا في مكتبي مشغولا بالتحرير والقراءة وشؤون الحياة الأخرى وتحولت من الكتابة الساخرة .. وغير الساخرة إلى الكتابة على الماء لعل هناك سمكا يعرف القراءة.
وأخير بدعوة غالية من "الاقتصادية" نعود .. وعسى العود (أحمد) وليس (أمحق).