جمعيات خيرية لحماية الناس من خطر "الشركات"!!

<a href="mailto:[email protected]">ammarba@yahoo.com</a>

استطاع النظام الاقتصادي الرأسمالي القائم على فكرة "السوق الحرة" وآليات العرض والطلب أن يسود العالم وذلك لبساطة فكرته وجاذبيتها ولأنها تعطي الإنتاج الفرصة للتمدد والإبداع والعطاء بعيدا عن القيود والتحكم المركزي.
فكرة "السوق الحرة" تفترض أن "السلعة الجيدة تطرد السلعة الرديئة"، أي أن المنافسة التجارية الحرة البحتة ستسمح للسلعة الأفضل أن تنتصر وللسلعة الرديئة أن تختفي. لكن هذه الفكرة لم تأخذ في الحساب قوة شيء ظهر لاحقا وهو "التسويق" و"الإعلان"، حيث نمت قوة التسويق إلى درجة أن "السلعة الأفضل تسويقا تطرد السلعة الأسوأ تسويقا". في الحقيقة تحول التسويق ليصبح جوهر العملية التجارية، لأنه صار من السهل صناعة أي منتج ومن السهل توزيعه في أي مكان في العالم، وبقي التنافس في مجال التسويق، وهو ما يفسر نجاح الأمريكيين والأوروبيين في المنافسة حتى الآن مقارنة بالآسيويين رغم أنهم ينتجون أكثر وبأسعار أرخص.
مشكلة التسويق الأساسية أن الرسالة الترويجية التي يطلقها قد لا يكون لها أي علاقة بالمنتج في الحقيقة، فقد يأتي من يقول لك "نحن نحطم الأسعار" بينما أسعاره هي الأغلى في السوق، وقد يأتي من يخبرك عن منتج معين أنه "يزيل الصلع" بينما هو في الحقيقة يقتل البقية الباقية من بصيلات الشعر، وذلك ببساطة لأنه لا توجد في النظام الاقتصادي الحر آلية لفحص الرسائل الإعلانية وتدقيقها.
الأسوأ من ذلك أن وسائل الإعلام على اختلافها تحولت عبر الزمن لتعتمد في طريقة تمويلها على الإعلان، وصار من الصعب على وسيلة إعلامية أن تقوم بهذا الدور الرقابي على الوسائل الإعلانية، لأن هذا معناه الصراع مع المعلن الذي يملك قوة المال الذي يمول الصحيفة.
لعلاج هذه المشكلة، جاء رجل أمريكي من أصل لبناني وهو "رالف نادر" بفكرة معالجة هذه المشكلة التي بدأت في السبعينيات الميلادية تقوى بشكل حاد في أمريكا وذلك من خلال جمعيات حماية المستهلكين، بحيث تقوم الجمعية بمتابعة الشركات وفحص منتجاتها ورسائلها الإعلانية والمقارنة بينها وتحذير الناس من مشكلاتها وأخطارها وتوضيح الجوانب الجيدة فيها وجمع الشكاوى من الناس نحو منتج معين أو نحو شركة معينة والتحقيق فيها وإعلانها وإجبار الشركات على تحمل مسؤوليتها نحو المجتمع أخلاقيا وتجاريا.
نجح رالف نادر نجاحا باهرا، وأثبت للأمريكيين أن جمعيته عنصر أساسي في حمايتهم من أخطاء الشركات ومن الجشع التجاري ومن شبح التسويق الذي يجعل القبيح جميلا والضار نافعا، ولذلك يعتبر رالف نادر من أكثر الشخصيات الأمريكية مصداقية حتى يومنا هذا وله شعبية عارمة في أمريكا، وهو يرشح نفسه كل أربع سنوات للرئاسة الأمريكية باسم حزب الخضر الذي يرأسه، ويحصل على نسبة لا بأس بها من الأصوات مقارنة بحجم حملته الانتخابية (حملته محدودة لأن الشركات لن تتبرع لعدوها اللدود طبعا بينما تتبرع للجمهوريين والديمقراطيين!).
لم يكن عمل رالف نادر سهلا، فقد اضطر إلى إقامة مختبرات ضخمة ومراكز أبحاث، وحتى تتخيل المسألة فإن تقريرا بسيطا عن سلامة عجلات السيارات تتطلب اختبارات مكثفة حتى تظهر نتائج دقيقة، وهذه الاختبارات تكلف ملايين الدولارات، فما بالك إذا كان ينتج عشرات التقارير كل شهر في مختلف القضايا الاستهلاكية. لقد استطاع نادر أن يمول هذه التكاليف من التبرعات الخيرية التي تصله كل عام من أفراد الشعب الأمريكي الذين آمنوا عبر الزمن بالأهمية القصوى لمثل هذا الجهد لحماية مجتمعهم من شبح سيطرة القطاع الخاص.
في بعض الدول التي لم تتمكن من إقامة مثل هذه الآلية الضخمة، تم الاكتفاء بجمعيات أو إدارات حكومية لتسجيل شكاوى الناس ضد الشركات الكبيرة والصغيرة وضد المنتجات والخدمات بعد التحقيق فيها، وهكذا فعندما تريد التعامل مع شركة نقل أمتعة أو شركة مقاولات أو أردت شراء منتج معين أو الأكل في مطعم معين، تتصل بهذا المكتب فيخبروك عن الشكاوى التي جاءت ضد الشركة وإلى أين وصل التحقيق بشأن هذه الشكاوى وهل ثبت بطلانها أو صحتها، ويتركون القرار لك.
في مجتمعاتنا النامية حيث عشرات الشركات تنشأ كل يوم، وحيث تأتينا شركات ومنتجات من كل مكان في العالم نحتاج إلى مثل هذا النظام وإلى مثل هذه الجمعيات، ليس فقط لحماية الناس، ولكن أيضا لقضية مهمة جدا وهي أن هذا سيسهم في رفع مستوى المنتجات والخدمات ويضغط على الشركات لرفع مستوى النوعية لديها، وذلك لأن سوقنا سوق صغيرة في النهاية، والمؤسسات التجارية فيها ما زالت ناشئة، وما زالت غير منظمة، وكلاسيكيات خدمة العملاء ما زالت في مرحلة أولية، وحتى الآن لا توجد أفكار عملية في ظل النظام الاقتصادي الحر لمعالجة هذه المشكلات إلا من خلال آليات "حماية المستهلك".
بقي أن أشير إلى أن جمعية رالف نادر وكل الجمعيات المماثلة الأخرى لم تنجح تماما في التفوق على الشركات، فمستوى السلع ينخفض كل يوم، ولو قارنت سلع اليوم بسلع الثمانينيات في الجودة لرأيت فرقا كبيرا، وذلك لأن الشركات يوما بعد يوم تزيد من ميزانيات التسويق على حساب ميزانيات حماية الجودة، لأنها اكتشفت أن التسويق أهم من الجودة في تحقيق المبيعات الجيدة، أو هكذا يخيل لها!
هذه القضية ليست تافهة، فهي محور رفاهية الحياة التي نعيشها، وهي أساس في تطوير المدنية بشكل عام، والكثيرون من الكتاب والمفكرين يعتقدون أن فشلنا في علاجها ستكون له عواقب وخيمة مستقبلية على الشعوب.
الشركات قد تكون الحاكم الجديد للعالم!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي