الهيمنة على الأكاديميين (10)

<a href="mailto:[email protected]">Ffaheem2006@yahoo.com</a>
اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية

كانت أصعب المعارك بالنسبة إلى اللوبي الإسرائيلي- ومازالت- هي معركته لخنق صوت الحقيقة في الجامعات، لأن الحرية الأكاديمية تعد قيمة جوهرية وأساسية ولأن الأساتذة الذين يتربعون على مقاعد علمية من الصعب تهديدهم أو إسكاتهم.ومع ذلك كان النقد الموجه لإسرائيل في التسعينيات ضئيلا عندما كانت اتفاقيات أوسلو هي المحور في حل قضية الصراع العربي الإسرائيلي. وزادت حدة الانتقادات عندما فشلت العملية وتولى أرييل شارون رئاسة الوزراء في ربيع 2002 واستخدام القوة الهائلة الرادعة بوحشية وضراوة ضد الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
اتجه اللوبي بعدوانية وصلف إلى الهيمنة على الجامعات. وهنا تكونت جمعيات جديدة مثل "قافلة الديمقراطية" (لاحظ استخدام تعبير الديموقراطية) وتحت مظلة هذه القافلة توافد المتحدثون الإسرائيليون والموالون لهم إلى الكليات والجامعات الأمريكية، كما قفزت جمعيات قديمة مثل المجلس اليهودي للشؤون العامة إلى الساحة إلى جانب جمعية جديدة هي الائتلاف الإسرائيلي الجامعي, التي تأسست لتنسيق أنشطة الجماعات العديدة التي تسعى إلى صنع صورة إسرائيل وترويج مصالحها في الجامعات الأمريكية. وأخيرا أنفق "الآيباك" ثلاثة أضعاف إنفاقه العادي على البرامج التي ترصد أنشطة الجامعات ولتدريب الشباب من الموالين لإسرائيل، حتي يتم "إشراك أكبر أعداد ممكنة من الطلبة في الجهود الرامية لدعم إسرائيل.
ويقوم اللوبي كذلك بمتابعة ورصد وتسجيل ما يكتبه الأساتذة وما يدرسون وفي أيلول (سبتمبر) 2002 أنشأ مارتن كريمز ودانييل بايبس وهما من أكثر الموالين لإسرائيل تعصبا وينتميان إلى المحافظين الجدد موقعا على الإنترنت هو" كامبس ووتش" كان من مهامه إعداد ونشر ملفات عن المشبوهين والمشكوك في ولائهم من الأساتذة بالنسبة إلى إسرائيل، بل وشجع الطلاب على كتابة تقارير عن الأساتذة, خاصة عن أي سلوكيات من جانبهم تنم عن معاداة لإسرائيل . وهذه المحاولة العلنية المكثفة لإعداد قوائم سوداء بأسماء الذين ينتقدون إسرائيل مع العمل على تخويفهم أثارت ردود فعل عنيفة واضطر كريمر وبايبز إلى رفع الملفات، وإن كان الموقع ما زال مستمرا ويدعو الطلبة باستمرار إلى الكتابة عن أساتذتهم, خاصة ما يتعلق بالهجوم على إسرائيل. وهو دليل ساطع على تحالف المحافظين الجدد مع اللوبي الإسرائيلي (المحافظون الجدد هم الذين يحكمون أمريكا الآن) ودليل آخر على أن دعاوى الديموقراطية المطلوبة حيثما وجدت المصالح الأمريكية والصهيونية ترجع في الأساس إلى الرغبة في إعطاء حرية الحركة للعملاء المحليين الذين تتزايد أعدادهم مع زيادة مخصصاتهم من المعونات الأمريكية.
ويوجه اللوبي الإسرائيلي نيرانه على أسماء معينة من بين أعضاء هيئة التدريس في الجامعات ومن ثم الجامعات التي توظفهم, فجامعة كولومبيا التي كانت تضم الأكاديمي الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد ضمن أعضاء هيئة التدريس فيها كانت هدفا دائما للقوى الموالية لإسرائيل, وصرح جوناثان كول مدير جامعة كولومبيا ذات مرة "يمكن التأكيد على أن أي تصريح علني يدعم الشعب الفلسطيني من جانب الأستاذ المتميز إدوارد سعيد سوف يثير مئات الرسائل الإلكترونية والخطابات والتقارير الصحافية التي تطالبنا باستنكار سعيد أو معاقبته أو طرده". وعندما عينت جامعة كولومبيا المؤرخ رشيد خالدي من جامعة شيكاغو قال كول "لقد بدأت الشكاوى تنهمر من أناس لا يشاركونه مضمون آرائه السياسية" وقد واجهت جامعة برنستون المشكلة نفسها بعد عدة سنوات عندما فكرت في استقطاب خالدي واستعارته من كولومبيا.
وثمة حادث يؤكد دور اللوبي الإسرائيلي في تخويف ومطاردة الأساتذة الجامعيين وقع 2004، عندما أنتج "مشروع دافيد" فيلما دعائيا يزعم بأن القائمين على برنامج دراسات الشرق الأوسط في جامعة كولومبيا مناهضون ومعادون للسامية وأنهم يخيفون ويهددون الطلبة اليهود الذين دافعوا ويدافعون عن إسرائيل.. ووضع اليهود جامعة كولومبيا فوق النيران، ولكن لجنة جامعية تم تكليفها بالتحقيق في الادعاءات لم تجد دليلا لمعاداة السامية وكان الحدث الوحيد الذي تم تسجيله هو رد فعل غاضب لأستاذ على سؤال لطالب واكتشفت اللجنة أن الأساتذة المتهمين كانوا هدفا لحملة تخويف علنية.
ولعل أبشع عنصر في الحملة اليهودية للقضاء على أي نقد لإسرائيل من الجامعات يتمثل في جهود الجماعات اليهودية للضغط على الكونجرس لإنشاء آليات ترصد ما يقوله الأساتذة حول إسرائيل. أما المدارس التي يثبت لليهود أنها منحازة ضد إسرائيل فسوف تحرم من الدعم المالي الفيدرالي ولم تنجح هذه الجهود لممارسة القمع البوليسي ضد الجامعات حتى الآن، ولكن تواصل جهودهم في هذا المضمار يؤكد الأهمية التي يولونها للسيطرة على الرأي وقمع المعارضين.
وأخيرا قام عدد من المتبرعين اليهود بإنشاء برامج دراسية عن إسرائيل, إضافة إلى ما يقرب من 130 برنامج دراسات عن اليهود تعمل الآن بالفعل والهدف من ذلك زيادة عدد أصدقاء إسرائيل بين الأكاديميين, وأعلن عن إنشاء معهد تاءوب للدراسات الإسرائيلية في الأول من أيار (مايو) 2003، كما تم تأسيس برامج مماثلة في جامعات أخرى مثل بيركلي وبرانديس وإيموري, ويؤكد الإداريون القائمون على الأمور الأكاديمية الأهمية التعليمية لهذه البرامج, ولكن الواقع أنها مقصورة على تحقيق هدف تحسين صورة إسرائيل في الوسط الجامعي, ويوضح فريد لافر رئيس مؤسسة تاءوب أن الهدف الرئيسي للمؤسسة هو مواجهة وجهة النظر العربية التي يعتقد أنها سائدة في جامعة نيويورك. وباختصار فإن اللوبي يمضي قدما لإبعاد إسرائيل عن أي انتقادات في الساحة الأكاديمية ولكن هذه الجهود لم تحقق ما حققته من نجاح في الأوساط السياسية, خاصة الكونجرس بمجلسيه, ورغم ذلك يسعى اللوبي حثيثا لخنق أي نقد لإسرائيل من جانب الأساتذة والطلاب, والحق أن أصوات النقد خفت تدريجيا في الجامعات.
ويطلق الخبراء تعبير الكاتم الأعظم على تهمة معاداة السامية ولا يمكن أن نتناول دور اللوبي الإسرائيلي دون التعرض لهذا المصطلح الذي يطلق ويشهر كبطاقة حمراء وحكم إدانة ضد من لا يحبون إسرائيل. فأي فرد ينتقد سلوكيات إسرائيل أو يردد أن الجماعات الموالية لإسرائيل لها تأثير قوي في السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط (وهو نفوذ وتأثير تحتفل به الايباك علنا!) يتهم بمعاداة السامية رغم أن وسائل الإعلام الإسرائيلية نفسها تتحدث علنا وبصفة مستمرة عن اللوبي اليهودي، لكن من غير المسموح لغيرهم الحديث عن لوبي إسرائيلي والمثير للسخرية والتناقض أن هذا اللوبي يفاخر بقوته علنا ثم يهاجم من يحاول لفت الانتباه إليه وقد أثبت هذا الأسلوب فعاليته لأن معاداة السامية تهمة بغيضة ولا يود أي مسؤول أن يوصم بها ويلاحظ على المستوى نفسه من التناقض أن العرب وهم أعداء إسرائيل المحقون، ينتمون إلى العنصر السامي ولكن اليهود لا يسمحون بذكر العرب كساميين، لأن ذلك ينزع عنهم صفة التفرد والتميز والنخبوية, فضلا عن تكسبهم الكبير من وراء التهمة وتخويفهم خصومهم به (ومنهم العرب الساميون أنفسهم)
وللإنصاف فإن الأوروبيين أكثر نزعة لانتقاد الشطط الإسرائيلي من الأمريكيين وهنا يهب اليهود لإرجاع ذلك إلى انتشار معاداة السامية في أوروبا, وكما قال السفير الأمريكي لدى الاتحاد الأوروبي (صهيوني النزعة) 2004 لقد أصبح الأمر سيئا كما كان في الثلاثينيات (يشير إلى حقبة هتلر) رغم أن جميع البحوث واستبيانات الرأي أشارت إلى تدني نسبة معاداة السامية, كما أن عدد اليهود الذين هاجروا إلى ألمانيا 2002 فاق عدد من هاجر إلى إسرائيل. والملاحظ أن اليهود هم السلالة الوحيدة في العالم التي لا تسمح بالنقد ورغم أن 97 في المائة من الفرنسيين قالوا إن معاداة السامية عمل قبيح, 89 في المائة قالوا إنهم لا يمانعون التعايش مع اليهود و87 في المائة قالوا إن الهجوم على معابد اليهود مشين، إلا أن اليهود يريدون إذعانا كاملا بما يريدون وهذا هو قلب الاستعلاء. يرفضون الآراء المخالفة التي نشأت نتيجة المذابح الإسرائيلية والإجرام المتعمد ضد الأطفال والشيوخ والأميين ويعتبرون من يستنكر هذه المخازي والسلوكيات اللا إنسانية معاديا للسامية لا معاديا للمجرم والجريمة. واختصارا علينا أن نتنبه إلى أن تهمة معاداة السامية تعتبر معادلة لانتقاد سلوك إسرائيل, وهذا هو الغش والتخويف بعينه. وعندما أدانت الكنيسة الإنجليزية شركة كاتربيلار التي تصنع البولدوزر الذي يدمر بيوت الفلسطينيين، هب الصهانية وشنوا هجوما على الكنيسة، مع أن الكنيسة كانت تنتقد أسلوبا وسياسة وليس عقيدة أو جنسا أو عنصرا.
ويقف الإسرائيليون بتهمتهم المقدمة ضد كل من يناقش حق إسرائيل في البقاء، ويعتبرونه معاداة للسامية, ذلك أن إسرائيل كيان سياسي أما الساميون فهم أقوام منتشرة في ربوع الأرض. لا يوجد من يناقش هذا الواقع الأليم وينتقد القرار الصهيوني, وعندما ينتقد البعض الممارسات ضد الفلسطينيين وهو انتقاد في محله لأنه انتهاك لكل القيم الإنسانية، يعلو صوت اللوبي مهددا ومرددا الاتهام الأبدي. كما أن إسرائيل ليست الدولة الوحيدة التي تهاجم لسياساتها الإجرامية ضد الفلسطينيين الذين تحرمهم من حق تقرير المصير وحقوقهم الإنسانية الكثيرة. ولا شك أن كثيرا من الدول المارقة تحلم بالدعم الذي يتلقاه إسرائيل من أمريكا وغيرها لتواصل تجاوزاتها ولكن ما يهمنا الآن هو أثر هذا اللوبي في السياسة الخارجية الأمريكية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي