بأي ذنب قتلت؟

لم يدر بخلدي أن أكتب في يوم من الأيام خارج نطاق تخصصي الاقتصادي وذلك لقناعتي الشخصية بأهمية التخصص والمهنية في الكتابة. ولكن وبكل أسف وبسبب رسالة وصلتني على بريدي الإلكتروني من صديق لا يتكلم العربية ولم يزر بلدا عربيا واحدا في حياته، وبالتالي لم ير الشرق الأوسط لا الصغير منه ولا الكبير. فلقد أرسل صورة مرفقة مدون تحتها كلمة Sorry. وكانت تلك الصورة هي لطفلة لبنانية شهيدة قذفتها الصواريخ من بيتها إلى أرض خضراء ولم يتجاوز عمرها ثلاث أو أربع سنوات، وكانت نصف أرجلها مكشوفة وكذلك بطنها. وكأن لسان حالها يقول بأي ذنب قتلتموني يا (..)! لقد رحلت إحدى عصافير السلام كما رحلت قبلها الآلاف من خلال هذا العبث! ولا أعلم لماذا ودون مقدمات برزت صورة أطفالي الاثنين وهم في مثل عمر هذه الفتاة، وقررت أن أترك المكتب وأذهب مباشرة إلى البيت حتى أحتضن كل واحد منهما بكل قوة وأطمئن على سلامتهما وكأني كنت في واحدة من مدن لبنان هذا البلد الجميل في كل شيء، وكأن جماله هو سبب اغتصابه المتكرر.
وهذه الصورة المؤلمة هي ما جعلتني أعيش ولو لفترة حالة من الهلوسة كثرت فيها الأسئلة دون إجابات ولكن لسان حالي يقول ويصرخ بعد كل سؤال "لا" و"ألف لا". لقد خاطبت أحد طفلي إلى الدرجة التي جعلت علامات التعجب وعدم الفهم تتجلى على وجهه البريء! وكأنه يقول: بابا أنا لا أفهمك! ولكنك يا ولدي سوف تفهم في قادم الأيام إن قُدر لك أن تعيش معنى السلام في مملكتك، فإن ذلك بسبب حكمة وعقل العقلاء وليس مغامرة المغامرين!
لقد خاطبت ولدي ذا السنوات الأربع بأسئلة أعرف أنها هلوسة وجنون ولكنها خرجت منى دون وعي وهي حالة مررت بها بسبب صورة تلك الفتاة الجميلة الشهيدة التي لا تعرف بأي ذنب قتلت وأي ثمن ماتت من أجله؟ وقد يقول القائل إنها ليست الصورة الأولى في عالمنا العربي والإسلامي, فأطفاله يموتون بالعشرات بل بالمئات وقد يكونون بالآلاف ولن تكون الأخيرة! نعم هي ليست الأولى ولكن أتمنى أن تكون الأخيرة، يكفي قتلا، ويكفينا تهورا ويكفينا اندفاعا إلى الهاوية بمغامرات تجهل النتيجة المباشرة وحساب الأرباح والخسائر.

لقد تمتمت في ثوان ورددت أسئلة كثيرة وأنا أنظر إلى وجه ابني. وهي أسئلة لا تبحث عن إجابة ولا تريد أن تعود مرة أخرى ولكنها خرجت في لحظة من التخدير غير العضوي، وأتمنى ألا تعود مرة أخرى فهي مؤلمة وكلها كانت موجهة إلى ولدي وفلذة كبدي حفظهما الله وحفظ أطفال البشرية كلهم.

ابني عبد الله: هل لديك الاستعداد لأن تموت من أجل أرض أينما كانت وأنت في هذا العمر؟
ابني عبد الله: هل لديك الاستعداد لأن تموت من أجل مشاريع وطموحات الجيران سواء كانوا أشقاء أم أعداء؟
ابني عبد الله: بل هل لديك الاستعداد لأن تموت من أجلي، أنا بابا؟
ابني عبد الله: إذاً هل يمكن أن أخسر حياتك من أجل مشاريع الانتقام وكأوراق ضغط نيابة عن الآخرين؟
ابني عبد الله: هل تريد أن أفقدك إلى الأبد وأنتَ تعيش أحلى سنوات عمرك من أجل أسير آخر نريد إطلاق سراحه؟ وهل يرضى هذا الأسير نفسه أن يخرج من سجنه الذي سجن فيه على أشلاء أطفالي وأطفال الآخرين وربما أطفاله هو؟ وكيف سوف يواجه آباء وأمهات المئات من الأطفال القتلى؟
ابني عبد الله: هل تريد أن نودعك إلى دار الآخرة لمجرد أن التضحية تستلزم أن أخسرك إلى الأبد؟ وما هو هذا العائد من تلك التضحية؟ خسارتك!
ابني عبد الله: هل هناك قضية في الكون كله تستحق أن أخسرك إلى الأبد؟
ابني عبد الله: هل يوجد دين أو عقيدة في العالم أو في الكواكب الأخرى يجيز هذه المقايضة؟ وهذا يذكرني بقصة معبرة وهي أنه حكم على شخص ظلماً من قبل القاضي، حيث سأل القاضي بعد صدور الحكم: هل هذا حكمك أم حكم الإله الذي تعبده؟ قال: بل حكم الإله. فقال: لقد كفرت بهذا الإله إذا كان يجيز الظلم!
ابني عبد الله: هل هناك قائد أو زعيم يستحق أن تُقتل أنت من أجله؟
ابني عبد الله: هل ولدت كي تموت من أجل هدف ما من أهداف البشر أَياً كان هذا الهدف ساميا أو غير سام؟
ابني عبد الله: هل ولدت الطفولة الجميلة "زينة الحياة" كي تُقذف بصواريخ إلى درجة أن تخرج معها جثتهم من المنزل وتسقط في الشارع؟
ابني عبد الله: هل أنا المجنون أم هذا العالم غير المفهوم وغير المنطقي وغير العادل وغير المتزن؟
ابني عبد الله: هل يعني إذا كان العالم مجنونا أن أنجر وراء جنونه وإلا أصبح أنا الخائن؟
ابني عبد الله: هل يستطيع أن ينام بعد ذلك من يقتل بشرا؟ هل تعلم أني لم أنم ولمدة أيام بعد أن دهست قطاً على طريق سريع قبل سنوات!
ابني عبد الله: هل أخطأت بأني كنت السبب بعد الله في وجودك في هذا الزمن الرديء؟
لولا قناعتي وإيماني أن قدر الله أقوى وحكمته أجل وأسمى وتتعدى عقولنا، لما توقفت الأسئلة ولما انتهت الهلوسة عند هذا الحد, ولكنه هو القائل "قال إني أعلم ما لا تعلمون"

كل تلك الأسئلة سألتها لابني في ثوان، وفجأة أيقظني من هذه الهلوسة وبلهجته وحركات يديه " أنت وش تخبص يا بابا؟"
إي والله "وش أخبص؟" هل يستطيع طفل في عمر أربع سنوات أن يجد إجابة عن سبب قتل أطفال بهذه الطريقة ولحساب من؟! وهي الإجابة التي عجز عنها فلاسفة ومفكرون رغم أنهم لم يتركوا شيئا إلا وتحدثًوا عنه وفيه وحوله؟ وهنا تذكرت كتابات المفكر عبد الله القصيمي, رحمه الله, والذي وصمه البعض بأنه صوت عال يقول كل شيء ولا يقول شيئا. وكأنه في حالة هلوسة مستمرة، رغم أنه يعتبر ابن كل المدارس الدينية منها والفلسفية، وكل ذلك الدوران كان بهدف أن يفهم ما لا يفُهم. وفي قناعتي الشخصية أنه قال كل شيء يمكن أن يقال.

وبعد هذه الصورة التي أتمنى من الله أن يرحم الطفولة البريئة وألا نشاهد مثلها في كل بلاد العالم. وأتمنى أن يقرأ كل مؤمن تعاليم دينه ووصايا رسل هذه الأديان الصحيحة. الأرض كذبة، والحدود كذبة، وتسمية الدول كذبة، لأن كل الذي طالبت به الأديان هو صيانة الإنسان من الانحطاط والسمو فوق كل صغائر الحياة وليس حدودا ومغامرات تأكل الأخضر واليابس والطفل والشيخ والنساء. ولقد قال رسول الله, صلي الله علية وسلم, بما معنى الحديث " لئن تهدم الكعبة حجرا حجرا أهون عند الله من أن يراق دم امرئ مسلم".
إن حماية أطفالي وأطفال العالم أهم وأسمى عندي من أن أمتلك كل مساحات الكرة الأرضية وحتى الكواكب الأخرى, ولا أتصور أن كيلو مترا مربعا أو مليون كيلو متر مربع تستحق بالنسبة إلى أب وأم أن يموت طفلهما بهذه الطريقة ومن أجلها. إنها عبثية المغامرات لا غير وسوف نشاهد في قادم السنوات نتائج المغامرات كما شاهدناها في تاريخنا الحديث من مغامرات قومية وبعثية والآن دينية أو بلباس الدين.

وكذلك سوف تشهد الأيام حكمة العقل والتعقل والانحناء الحكيم للرياح العاتية حتى تهدأ، وما صلح الحديبية وقبول رسول الأمة صلى الله عليه وسلم شروطا مجحفة في حق أمته إلا تكتيك العالم والعاقل والمخطط لبناء أمة تسود الأمم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي