مأساة متجددة .. القبول في الجامعات
<p><a href="mailto:[email protected]">mdukair@yahoo.com</a></p>
ما زال الناس في كل عام يعانون من مأساة قبول أبنائهم في التعليم العالي. لقد توقفت قدرات بعض الجامعات حتى عن قبول الطلاب والطالبات الحاصلين على مجموع 89 في المائة من المجموع العام في امتحانات الثانوية العامة وهو معدل أداء عال. بل عجزت بعض الجامعات عن قبول الحاصلين على 95 في المائة في بعض كليات الطب والكليات العلمية، على الرغم من حاجة المجتمع وسوق العمل لهذه المهارات. من الواضح أننا نفتقد خطة تأخذ في اعتبارها معدل نمو الطلب على التعليم المنبثق من معدل نمو السكان. إن نمو الطلب على خدمات التعليم الجامعي لا يقابله نمو مواز في عرض هذه الخدمات، سواء من قبل القطاع العام بنوعيه المدني أو العسكري أو من قبل القطاع الخاص. وهذه الظاهرة لا تزال مستمرة، على الرغم من أن مخصصات التعليم تستغرق نحو 25 في المائة من الإنفاق العام الحكومي، ونحو 10 في المائة من الدخل القومي!
مجتمعنا بحاجة لخطة وطنية لمواجهة هذه الأزمة، وهي مسؤولية تقع على عاتق وزارة الاقتصاد والتخطيط، ووزارة التعليم العالي، ثم الجامعات. إن معضلة التعليم العالي في مجتمعنا تقوم على محورين: محورها الأول، عدم وجود خطة وطنية تستشرف أعداد الخريجين من التعليم العام وتوضح لهم المسار الذي ينبغي عليهم الأخذ به ليكونوا لبنة صالحة ومفيدة لأنفسهم ولمجتمعهم. يجب أن يجد الفتية من الجنسين إجابة واضحة من المجتمع، عن سؤال مهم وهو: ماذا عليهم أن يفعلوا بعد تخرجهم في الثانوية العامة بعد أن تعتذر الجامعات والكليات والمعاهد عن قبولهم! هل المطلوب منهم أن يلزموا بيوتهم أو يهيموا على وجوههم في الطرقات والشوارع، أم أن هناك طريقا آخر يمكن لهم أن يسلكوه، لكي يكونوا أعضاء نافعين لأنفسهم ولمجتمعهم؟ وما هو هذا الطريق؟ فمن المهم أن يكون هذا واضحا لهم وليس فقط لنا، حتى لا يحولهم الإحباط والفراغ إلى قنابل اجتماعية موقوتة، قد يكلفنا انفجارها خسائر أكثر من تكاليف احتواء هذه الأزمات الآن. إنني أخشى أن بعض من حمّلوا مسؤولية التصدي لها، لا يقدرون ما يمكن أن يؤول إليه تراكم مثل هذه الأزمات الطاحنة!
ألا يمكن أن نستغل جزءا من عوائد النفط الحالية في إقامة برامج تدريب وتعليم عاجلة مدتها بين سنة وسنتين، بحيث تكون مفتوحة لكل من لم يجد مكانا في التعليم العالي؟ فينخرط فيها الشباب ليتعلموا مهارة محددة تساعدهم على بناء ذواتهم وتقوى ثقتهم بأنفسهم. ومن المهم أن تكون هذه البرامج مصممة بالتعاون مع المؤسسات الاقتصادية الكبرى في المجتمع مثل البنوك والشركات الصناعية والخدمية والتجارية الكبرى بحيث تلبي حاجاتها من القوى العاملة الأولية. ويمكن أيضا أن تكون مصممة بالتعاون مع القطاع الحكومي المدني (كوزارة الحج) أو العسكري (الدفاعي والأمني) لإمداده باحتياجاته المتزايدة الموسمية أو الدائمة من العمالة المساعدة المدنية والإدارية على الأقل. علينا أن نأخذ بأي برنامج يعمل على شغل أوقات أبنائنا واستغلال طاقاتهم المتفجرة. أما تجاهل الأمر فهو الخطر الماحق بعينيه، وإن لم يبدو للبعض مرحليا.
أما المحور الثاني الذي تقوم عليه معضلة التعليم العالي في مجتمعنا فيتعلق بنوعية التعليم، الذي يبدو أنه لم يرق بعد إلى مستوى توفير الكفاءات التي تجعل من أبنائنا الخريجين قادرين ومؤهلين على المنافسة في سوق العمل. وما ذاك إلا بسبب انفصال كبير لعُرى الترابط بين مناهج التعليم وما تتطلبه الحياة العملية المعاصرة من كفاءات. لقد تنبه كثير من دول العالم المتقدم إلى أهمية ربط برامج التعليم بالتدريب، فجعلت من الأخير جزءا أساسيا من العملية التعليمية، يبدأ من المرحلة الثانوية مارا بمرحلة التعليم العالي ومستمرا حتى الانخراط في سوق العمل. وعلى كل فهذه قضية أخرى تحتاج إلى مقال آخر.
إن قضية التعليم ليست مسألة ترفيه قابلة للتأجيل أو التأخير في سلم الأولويات، بل هي قضية مصيرية تتعلق بمستقبل مجتمعنا وقدرته على الإنتاج والمنافسة. إن ابني وابنك هما من رجال الغد، لأنني ومن هم في مثل سني كنا فتية الأمس! لذا فإن الاهتمام بنوعية تعليمهم هو اهتمام بمستقبلنا وبموقعنا بين أمم الأرض! إن أهمية التعليم تنبثق من أهمية العنصر الإنساني في التنمية. وكل الشواهد من التجارب العالمية، إضافة لتقارير المنظمات الدولية تشير إلى أن الإنسان هو عماد التنمية وأن التعليم هو أساس بناء الإنسان. وأن التنمية إذا انفصلت عن سياقها الإنساني والثقافي فإنها تصبح نمواً بلا روح. واليوم، بات واضحا أن التنمية لا تقف عند حدود التطاول في البنيان أو حتى مجرد توفير السلع والخدمات لأفراد المجتمع. فمع أهمية ذلك، فإن التنمية الحقيقية تعني أيضاً أن نوفر لأبنائنا فرص التعليم النوعي المناسب لمقتضى العصر، فهذا وحده الذي سيتيح لهم أن يصنعوا لأنفسهم ولمجتمعاتهم حياة أفضل.
كنت قد كتبت ـ كما كتب زملاء آخرون في هذه الصحيفة - عدة مقالات عن أهمية التعليم في تحديد مستقبلنا. وكل هذه المقالات تنتهي إلى تأكيد أنه لا يوجد خيار أفضل لنا من الاستثمار في التعليم. وقد أشرت في أحد مقالاتي إلى الخطة التعليمية التي طورتها كوريا الجنوبية تحت اسم K-21. ألا يمكن أن نستفيد على الأقل من تجارب غيرنا من الأمم الناهضة؟ لقد أصبح للهند أخيرا ميزة نسبية في ساحة المنافسة العالمية، لأنها ركزت على التعليم التقني الذي مكنها من إقامة واحة تقنية في بنجالور نافست بها واحة وادي السيلكون في كاليفورنيا.
إذا كانت الأمم تبني الجيوش للذود عن حياض ديارها في الحروب العسكرية، فإن التعليم هو السلاح الماضي للذود عن الذات في ساحة الحروب الاقتصادية.