قتل "الآخر" من خلال "الصراخ الإلكتروني"

<a href="mailto:[email protected]">ammarba@yahoo.com</a>

عندما تدخل على شبكة الإنترنت، "تسمع" الكثير من الأصوات، أصوات جادة وأخرى هزلية، بعضها غاضب والآخر هادئ، رجالية ونسائية، بعضها ذكي وأخرى في منتهى الغباء والحماقة.
الأصوات هنا كما هو واضح هي استعارة لغوية لما يكتبه الأفراد على الإنترنت من خلال المنتديات والمدونات والصفحات الشخصية والمجموعات البريدية وغرف الدردشة وغرف "البالتوك" وغيرها، وعندما نقول يكتبه الأفراد، فنحن بذلك طبعا نلغي المواقع التي تمثل مؤسسات حكومية أو تجارية أو خيرية، كما نلغي الكتابات العلمية بأنواعها، لأن مفهوم الأصوات هنا فيه شيء من العفوية والانطلاق.
يتسق هذا المفهوم مع مفهوم آخر أحب أن أقدمه هنا هو "الصراخ الإلكتروني"، الذي أطّرته في دراسة علمية نشرت في إحدى المجلات العلمية الأوروبية المتخصصة.
الصراخ الإلكتروني هو عندما يحاول الكاتب على الإنترنت أن يستخدم لغة وأسلوبا في الكتابة بحيث يعلو ما يقوله على ما يكتبه الآخرون، أو بمعنى أصح إحداث ضجة ضخمة للفت الأنظار، مع التأكيد على محاولة إلغاء الأصوات الأخرى من خلال زيادة حدة الصوت وطبقته. ادخل إلى المنتديات، تجد دائما أولئك الذين يصرخون، ربما لأنهم في كثير من الأحيان يشكون في قدرتهم على الإقناع، فيضطرون لاستخدام تكتيكات وأساليب عاطفية ونفسية تجعل القارئ محصورا في دائرتهم، منشغلا عن الاستماع للأصوات الخافتة الأخرى.
وقد ينشأ الصراخ الإلكتروني بطريقة أخرى وهي من خلال زيادة عدد المشاركات وتنظيمها ودعم بعضها البعض حتى يظن القارئ أن هذا رأي الأغلبية وأن هذا هو المنطق والصحيح بحكم أن عددا كبيرا من الناس ذوي الهوايات المستعارة يقولون به بلا شك أو تردد، مما يشغله عن الأصوات الخافتة الأخرى التي تأتي وهي تقول "ربما" و"علينا أن نفكر" و"بعض الناس" دون أن تجد من يوافقها في الرأي أو حتى يستمع لها.
ولأن البعض يمارس الصراخ الإلكتروني من خلال العبارات القوية والتدفق الكثيف والجزم الحاد في الآراء، يضطر الآخرون لأن يفعلوا الشيء نفسه ليلفتوا الأنظار لهم، ويتحول المنتدى تدريجيا إلى أصوات مرتفعة تحارب بعضها البعض، بينما أكثر الأصوات خفوتا هو صوت العقل الذي وضع جانبا لأجل كسب معركة الصراخ. هذا قد يشرح سبب غياب الموضوعية والعقل عن كثير مما يكتب على الإنترنت، لأن الكثيرين يعيشون في دوامة من ردود الأفعال العاطفية ضد بعضهم البعض وينسون تماما أصول الحوار وأهمية تقدير الرأي الآخر وشجاعة الاعتراف بالخطأ عندما يتطلب الأمر ذلك.
ولعل أكبر ضحية للصراخ الإلكتروني هو "الآخر" أيا كان نوعه، لأن الصراخ بطبيعته يدفع الشخص لتضخيم ذاته وما يؤمن به على حساب الآخرين، متناسيا تماما قول السلف "أنا على حق، وقد أكون على خطأ، وخصمي على خطأ وقد يكون على حق، أو قول الفلاسفة الألمان الشهير حول حقائق العلم: "الحقيقة المطلقة غير موجودة".
في الدراسة التي أشرت إليها أعلاه قمت بتحليل مضمون الأصوات المرتفعة على الإنترنت، لأجد أن الكثير منها يرفض القيم الجميلة للحياة ويؤكد دائما على الجانب السلبي منها، ومعظمها يؤكد تماما على أن ما يقوله غير قابل للشك أو المناقشة، تعاني من الإحباط وقلة الأمل، غاضبة، خائفة من العولمة رغم إيمانها العالي بأهمية حرية التعبير، أكثر عنصرية، وأكثر محافظة، وتميل في نسبة لا بأس بها إلى العنف على تنوع أشكاله ودرجاته، بينما تكره وسائل الإعلام الكلاسيكية بشكل عام.
المؤلم في ظاهرة الصراخ الإلكتروني أنها تعطي صورة وهمية عن الإنترنت، فبسبب التدفق الكثيف والمنظم لهذه الأصوات أو الكتابات، وبسبب ارتفاع نغمة الصوت فيها، فهي توحي للقارئ وكأنها تمثل المجموع الأكبر من مستخدمي الإنترنت، بينما في الحقيقة هي الأعلى صوتا ليس إلا.
على صناع القرار ألا يصم الصراخ آذانهم وأن يبحثوا عن الهمس على شبكة الإنترنت، فقد يمثل الأغلبية ونحن لا ندري.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي