سيكولوجية المخالفات المرورية
<a href="mailto:[email protected]">nsabhan@hotmail.com</a>
دشنت إدارات المرور في المملكة حملة توعوية ـ للمرة العاشرة ـ طوال الشهر الماضي، تحت شعار "يكفي"، وخلال هذه الحملة ركز على تبيان مخاطر المخالفات المرورية، وأجهد رجال المرور أنفسهم لإبلاغ الناس بأن السرعة وقطع الإشارة سلوك خطر قد يؤدي إلى الموت، وقرأنا في كل شارع وتقاطع عبارات مثل: يكفي سرعة .. يكفي قطع إشارة، واعتقدنا أنها سوف تؤدي إلى نتائج باهرة أو باهية، كما يقول إخوتنا التوانسة، بحيث تؤثر هذه العبارات في الناس إيجابا، وبعد أن يكتشفوا الغائبة عنهم وهي بأن السرعة وقطع الإشارة خطأ وخطر في آن واحد، سوف نصحو من الغد ـ بإذن الله ـ لنجد شوارعنا آمنة وقد اختفى منها أولئك المخالفون الخطرون الذين استمرأوا السرعة العالية والسقوط على المسارات وإرهاب كل من لا ينزاح عن طريقهم ويخلي لهم المسار. وأوضح مثال على ذلك طريق الحرمين في جدة، والتعدي عنوة عند الإشارات, فضلا عن قطعها والوقوف العشوائي حتى ولو سد أو ضيق الشارع لأن سعادة "البيه" المواطن يريد الوقوف لشراء شاورما مثلا، وإذا كان مشروع مواطن أي واحد من شبابنا الواعد من طراز "شف وجه العنز واحلب لبن" فأنت معرض لما لا تحمد عقباه لو أبديت أي تذمر كان لأنك تكون قد تعرضت لـ "حقوقه" في ممارسة المخالفة!!
طبعا لن تحل مشاكلنا المرورية بكل هذا التبسيط، لأنها أكثر تعقيدا من أن تحل بمجرد حملة توعية، وهو ما سبق أن تناولته وغيري من الكتاب, خاصة هنا في "الاقتصادية", خصوصا لبها وهي المخالفات المرورية والتمادي فيها حتى باتت مشكلة تؤرقنا جميعا. وعلى الرغم من تعدد هذا التناول وبث الشكوى المستمرة من تردي حالة المرور في غياب الردع اللازم وآلية حازمة في تعقب المخالفين وإيقاع العقوبة والغرامة عليهم دون تهاون او على طريقة "شختك بختك" بمعنى إيقاف مخالف واحد وترك عشرة، رغما عن ذلك لم نر تحسنا أو تغيرا إيجابيا على وضع المرور حيث ما زالت المخالفات المرورية تمارس عيانا بيانا وعلى الوتيرة نفسها وبالأسلوب نفسه، بما ليس له من معنى أو تفسير وتحليل إلا أنه انعكاس لانعدام وليس فقط لقلة في الذوق والسلوك الحضاري لدى من يقود سيارة بقانونه الخاص والذي يفصله حسب رغبته هو فقط كما هو حادث في شوارعنا.
أعود لتناول هذا الموضوع للمرة الرابعة لسببين: الأول على خلفية الحملة المرورية الجديدة "يكفي" وهي حملة كسابقاتها سوف تمضي دون أن تؤسس نظاما وسلوكا مروريا يتناسق مع القانون المروري العام، فما زلت عند رأيي بأن المشكلة ليست في قلة الوعي بقدر ما هي في قلة الذوق والاحترام لحقوق الآخرين والسلوك المتحضر في استخدام الطريق العام نتيجة لغياب دور لنظام المرور, وهو ما يحتاج لتطبيق دقيق ومحكم لنظام ضبط مروري بتفعيل نظام العقوبات، وهذا ـ في تصوري ـ لا يتحقق من خلال حملات توعوية نخبر سلبية نتائجها وضعف مردودها لعدم تجاوب السائق معها. أما الأمر الثاني فمن ملاحظة لكثير من المخالفات المرورية التي ترتكب في شوارعنا وجدت أنها لا يمكن أن تصدر إلا من دوافع سيكولوجية أو نفسية تعكس حالة من التخلف الاستفزازي لدى البعض، فكثير من هذه المخالفات لا يجد لها من دافع إلا كونها تعبر عن نمط سلوكي متخلف نتيجة لسعي المخالف إلى كسر النظام العام وخرق أخلاقياته المتعارف عليها، إما بطلب التميز لشعور بالنقص أو بدافع الاستعراض، أو نتيجة لتبلد في الحس يفقده الانتماء لعالم متحضر. وحين نربط ارتكاب المخالفة المرورية بالمظهر الحضاري فلأن من أبرز وأهم مظاهر التحضر فعليا هو وجود تنظيم لحياة المجتمع العصرية، فمع تعقد سمات هذه الحياة العصرية بتشابك التعامل داخلها بات ضروريا وجود تنظيم يضبط حركة الأفراد والمجموع حتى لا يحدث فيها تضارب وتضاد يؤثر في صور التعامل المختلفة داخلها، وهو ما دفع إلى وجود العديد من الأنظمة والقوانين الضابطة لهذه المجتمعات المتحضرة والتي يجب على الجميع الالتزام بها لكي تصبح حياة المجتمع المتحضر والعصري سلسة دون عوائق أو صعوبات. ومن هذه الأنظمة نظام المرور الذي وجد لكي ينظم حركة السير بما يخدم المجموع ويحقق فرصا متساوية لاستخدام الطريق العام ولكن وفق قواعد منظمة لذلك على قاعدة أن حرية الفرد تنتهي عند بدء حرية الآخرين، بمعنى أن الفرد حر ما لم تكن في ممارسته لهذه الحرية اعتداء على حرية الآخر، فالفرد منا حر في قيادة سيارته في الاتجاه الذي يريد وسلك الطريق الذي يرغب، ولكن هذه الحرية مقيدة بنظام مروري يلزمه بشروط ويقيده بقيود تخدم المجموع، فلا نستطيع مثلا عكس السير أو قطع الإشارة أو الوقوف وسط الشارع بحجة الحرية هنا.
الحقيقة أن كثيرا من المخالفات المرتكبة وأبرزها التعدي على حق الآخرين في المرور عند الإشارات مثلا، لا يمكن أن يوجد لها تفسير أو تبرير إلا كونها تصرفا غير لائق يعكس حالة من الاستهتار المريع المعبر عن تكوين متخلف، فهذه المخالفات التي نراها في شوارعنا لا يمكن أن تصدر عن جهل بالأنظمة وسلوك القيادة السليم، بل تعبير عن قدر كبير من تبلد الحس إلى درجة عدم اعتبار التعدي على حق الآخر خطأ يستوجب الخجل على أقل تقدير.