ما وراء الأزمة السياسية العربية
<a href="mailto:[email protected]">drashwan59@yahoo.com</a>
توضح مؤشرات كثيرة سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية أن هناك ثمة أزمة عميقة وممتدة تحيط بمعظم الدول العربية وبخاصة تلك ذات الحجم السكاني الكبير والمتوسط. والقول بوجود هذه الأزمة لا يتناقض مع حقيقة وجود بعض التقدم في هذه الدول على صعيد بعض المحاور وبخاصة محور التكنولوجيا والاتصالات وبعض قطاعات التعليم. وفي معظم هذه البلدان تتخذ تلك الأزمة مركبة الأبعاد عميقة الجذور في نهاية الأمر صوراً ومظاهر سياسية أغلبها يتعلق بتطور الإصلاح السياسي فيها وما يعترضه من عوائق ومشكلات تجعله يتعثر أو يراوح في مكانه. كذلك تتخذ تلك الأزمة على الصعيد السياسي نفسه مظهراً آخر يتمثل في تصاعد المنافسة بل والصدام بين الأنظمة والمجتمعات في هذه الدول العربية وبين مختلف فصائل التيار الإسلامي من أكثرها اعتدالاً حتى أقصاها غلواً وتطرفاً.
ومع أن الأبعاد السياسية تبدو هي الغالبة على الأزمة المركبة التي تمر بها معظم البلدان العربية، إلا أنه في حقيقة الأمر لا يمكن فهمها بعمق دون التطرق إلى أبعادها الأخرى الأكثر عمقاً وتجذراً. فالقاعدة الرئيسية التي تقوم عليها تلك الأزمة المركبة هي الأزمة الاجتماعية ـ الاقتصادية التي تمر بها معظم البلدان العربية والتي ربما تمثل البعد الكامن ـ الحاضر في تشكيل وصياغة تلك الأزمة العامة التي طغت السياسة على سطحها معطية الانطباع بأنه لا أزمة سواها في معظم البلدان العربية. ولا شك بالطبع أن طبيعة تلك الأزمة الاجتماعية ـ الاقتصادية تختلف من بلد عربي إلى آخر، حيث إن هناك بلداناً تئن فرط ثقلها عليها, بينما أخرى تعاني بعض جوانبها. وتختلف مظاهر وجوانب تلك الأزمة الاجتماعية ـ الاقتصادية من بلد عربي إلى آخر، حيث تبدو مجسدة في مجموعة من الأزمات الفرعية متفاوتة الخطورة شديدة الارتباط بعضها ببعض. فهناك أولاً وقبل كل شيء أزمة البطالة التي يذهب بعض الباحثين إلى أنها أصل كل الأزمات الأخرى في العالم العربي منذ نهاية الثمانينيات، والتي تبلغ في بعض المجتمعات العربية مثل المجتمع الفلسطيني أكثر من 35 في المائة من القادرين على العمل وتكتسح في بلد آخر كثيف السكان مثل مصر عدة ملايين تتفاوت التقديرات في نسبتهم من 10 في المائة إلى 23 في المائة من قوة العمل. وفي هذا السياق يأتي مثال الجزائر التي توضح البيانات الرسمية لحكومتها أن نسبة البطالة بها في بداية عام 2000 قد بلغت 29.77 في المائة من إجمالي قوة العمل البالغة نحو 8.2 مليون شخص في ذلك الوقت، أي بعدد يقدر بنحو 2.4 مليون عاطل، بينما ذهبت مصادر أخرى دولية وجزائرية إلى أن عدد العاطلين عن العمل يصل إلى نحو ثلاثة ملايين شخص بما يرفع نسبة البطالة قياساً إلى من هم في سن العمل إلى نحو 35 في المائة.
وغير بعيد عن هذا السياق تأتي أزمة التركيب السكاني المختل في معظم البلدان العربية، حيث يبدو الهرم السكاني مقلوباً تتمثل قاعدته الواسعة من الشباب الذين يمثلون غالبية السكان. وفي هذا السياق نجد مثلاً الحالة الجزائرية التي تبلغ فيها شريحة 15 ـ 35 عاماً نحو 30 في المائة من سكان البلاد، بينما تصل النسبة إلى نحو 60 في المائة إذا ما وصلنا بالسن إلى 40 عاماً. ويترافق مع ذلك التركيب السكاني المقلوب مشكلة الزيادة المتنامية في عدد سكان معظم الدول العربية والتي تبلغ في بعضها نحو 3 في المائة سنوياً. وتفاقم هاتان المشكلتان من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى وفي مقدمتها أزمة البطالة السابق الإشارة إليها، حيث يكون قطاع الشباب الأوسع حضوراً في المجتمع هو الأكثر إصابة بها ومعاناة منها. وتظهر في هذا السياق أزمة أخرى تتعلق بنصف المجتمعات العربية تقريباً، أي بالنساء الذين تمتعت نسبة كبيرة منهم بمستويات متوسطة وعالية من التعليم في العقود الأخيرة، بينما لا تزال العادات الاجتماعية والتقاليد وقبل كل ذلك معدلات البطالة العالية في حرمانهم من الانخراط في سوق العمل.
وإلى جانب تلك الأزمات الفرعية في الأزمة الاجتماعية ـ الاقتصادية العامة التي تكتسح حالياً معظم البلدان العربية، تأتي أزمة أخرى مهمة وهي أزمة الفساد التي تزيد من احتقان تلك الأزمة العامة. فعديد من التقارير والكتابات العربية والدولية ترصد خلال السنوات الأخيرة صوراً متنوعة من الفساد المالي والسياسي في معظم البلدان العربية كان لها أثرها على تدهور الأوضاع الاقتصادية فيها فضلاً عن تأثيراتها السلبية المباشرة على الأوضاع السياسية والاجتماعية. وقد فاق حجم الأموال التي تسربت إلى قنوات الفساد في العالم العربي آلاف المليارات من الدولارات، أهدر تسربها بدون شك فرصاً هائلة للنمو والإصلاح الاقتصادي في تلك البلدان مما فاقم من أزمتها العامة الحالية.
ولا شك أن تلك الأزمات الفرعية المتنوعة قد تدفقت جميعها لتصب في ساحة السياسة لتعطي مشهد الأزمة الأخير صبغة سياسية. فالنسب العالية للبطالة وتركزها في شريحة الشباب الذين يمثلون أغلبية السكان وتضاعف معدلات الفساد كان له دور يصعب تجاهله في انفجار الأزمة العربية العامة بصورتها السياسية وتفاقمها خلال العقد الماضي. كذلك فقد كان بعض تلك الأزمات الفرعية هي الأرضية الممهدة التي أدت بعدد غير قليل من الشباب العربي إلى الانخراط في جماعات دينية متطرفة التفكير وعنيفة السلوك تجاه الدولة والمجتمع في الوقت نفسه. وفي ظل كل ذلك أتت الأزمات الدولية الكبيرة الأخيرة، وفي مقدمتها الأزمتان العراقية والأفغانية بالإضافة إلى الأزمة الفلسطينية المزمنة المستمرة، لكي تفاقم من تأثير تلك الأزمات الفرعية على البلدان العربية وتدفع بها إلى مزيد من الاضطراب والغرق في مشهد الأزمة السياسية العامة التي تبدو لنا واضحة اليوم فيها جميعاً.