سوق الأسهم: رُبَّ ضارةٍ نافعة

من الواضح أن الأحداث السريعة المتلاحقة التي واكبت انهيار سوق الأسهم، قد حظيت باهتمام ولاة الأمر على أعلى مستوى. لأن ما آلت إليه الأمور أكبر من أن تتصدى له هيئة سوق المال وحدها أو حتى جهة حكومية واحدة. فالوضع كان بحاجة إلى تدخل سلطات عليا في البلاد تأمر بمراجعة شاملة لما انتهت إليه الأوضاع في سوق الأسهم، وتطلب تقييما كليا للآثار الاقتصادية والاجتماعية التي بدأت تنجم عن هذا الانهيار، ومن ثم توجيه المسؤولين ذوي الاختصاص لتبني سياسات اقتصادية جديدة واتخاذ قرارات سريعة وقوية تلملم هذه الآثار الخطيرة المحتملة.
لكن رُب ضارة نافعة! إذ يبدو أن هذه الأزمة قد صنعت أيضا حراكا في مجتمعنا دفع بعض المسؤولين السابقين وبعض المفكرين والمختصين من المهتمين بالشأن الاقتصادي، إلى إعادة التذكير بأن اقتصادنا دخل منذ فترة مرحلة مختلفة تتطلب سياسات اقتصادية جديدة لا تحتمل التسويف أو التأجيل، وتتعدى حتى مسألة ما حدث في سوق الأسهم. فقد بات واضحا أن سياساتنا وكذلك مؤسساتنا الاقتصادية ظلت راكدة، ولم تواكب التغيرات السريعة المتلاحقة التي جرت في اقتصادنا في السنتين الأخيرتين.
فعلى الرغم من تعاظم السيولة النقدية الناجمة عن ارتفاع عوائد البلاد من صادرات النفط وعودة بعض الأموال المهاجرة، إلا أن تقدما ملموس للقضاء على الأساليب الإدارية البالية المعطلة لم يطرأ لفتح فرص استثمار جديدة، ولا لمعالجة تخلف الأنظمة المقيدة لزيادة درجة المنافسة في الأنشطة الاقتصادية المختلفة، كما لم يطرأ تغيير يُذكر لكسر جمود السياسات المؤثرة في شكل توزيع الثروة في المجتمع. ولذلك رأينا أن أحد القرارات اللافتة التي اتخذها مجلس الوزراء في الأسبوع الماضي هو قلب القاعدة التقليدية السابقة المتبعة عند طرح أسهم شركة جديدة، وتوسيع قاعدة تملك المواطنين في المصرف الجديد (مصرف الإنماء) لتصبح 70 في المائة للمكتتبين بدلا من نسبة 30 في المائة التي كانت سائدة سابقا. وقبلها رأينا جدية في الإسراع بتحويل مؤسسة الخطوط السعودية إلى شركة خاصة، لكن من المهم عدم الاكتفاء بتحويل ملكية المؤسسات العامة إلى خاصة، وإنما أيضا تغير هيكل السوق بفتح باب المنافسة الخلاقة. فخدمات شركة الاتصالات السعودية لم تتحسن إلا بعد ظهور منافس لها. وكذا الأمر مع كل محتكر فسيظل ممارسا لدرجة من السلوك الاحتكاري حتى يجابه بالمنافسة.
من المهم الآن المحافظة على قوة الدفع الإصلاحية في شتى المجالات سواء تعلق الأمر بسوق الأسهم أو ببقية قطاعات الاقتصاد. فبالنسبة إلى سوق الأسهم يجب الإسراع بإنشاء بورصة للأوراق المالية يتولى إدارتها مجلس مستقل يشارك فيه جميع الأطراف ذات العلاقة بها. كما يجب العمل على وضع نظام لحوكمة الشركات المساهمة لزيادة درجة الإفصاح عن بياناتها المالية وخططها المستقبلية، ووضع ضوابط لكيفية إدراجها أو إخراجها من سوق البورصة وفقا لدرجة إسهامها في الاقتصاد ومدى استقرارها ونمو أدائها داخل القطاع الصناعي الذي تعمل فيه.
ومن الأفضل الإسراع بإنشاء صندوق توازن يقوم بدور صانع للسوق، يحميها من تصرفات المضاربين التي قد تدفع بها إلى ارتفاعات أو انخفاضات غير مبررة اقتصاديا وماليا، يكون شبيها بما يقوم به العضو الرابع من الأعضاء المسموح لهم بالعمل في بورصة نيويورك المسمى المتخصص Specialist.
أما بالنسبة إلى مجمل الاقتصاد، فإن مصلحة الأمة وضمان استقرارها ووحدتها ونموها ورخائها تتطلب العمل بروح جديدة وجادة تستوعب مستجدات الوضع العام الداخلي والإقليمي والدولي. فالوضع لم يعد يحتمل المفاسد التي استشرت من خلال جمع الأموال من الناس في مشاريع وهمية سواء كانت في مساهمات الأراضي أو بطاقات سوا أو تضييق فرص الكسب أمامهم ودفعهم نحو مضاربات محفوفة بمخاطر عالية. فلا بد من تفعيل دور الرقابة والمحاسبة على مستوى البلاد بقطاعيه العام والخاص حتى تستقيم الأمور.
بلادنا, ولله الحمد, فيها إمكانات ومقومات اقتصادية كامنة كبيرة، ومشكلتنا لم تكن يوما مشكلة قلة موارد بقدر ما هي مشكلة إدارة اقتصاد. إدارة تتطلب رؤى واضحة وعزيمة صادقة، وسياسات اقتصادية وتنظيمية ماضية، تتخطى الأساليب التقليدية المتحفظة السابقة. وسوف تؤكد الآثار الإيجابية للقرارات الأخيرة القوية والسريعة، أن الإسراع في تبني القرارات الاقتصادية والإدارية والقانونية والتنظيمية التي يفتقر إليها الاقتصاد ستؤدي إلى تحسين بيئة الاستثمار والعمل والمنافسة. فلا يزال هناك الكثير الذي يجب عمله وينتظره الناس في مجالات عديدة أهمها في الخدمات الصحية والتعليمية وخدمات المرافق العامة كالمياه والصرف الصحي ونحوها.
علمت أن حبيب الشعب وولي أمرهم الملك عبد الله لم تغمض له عين في الفترة السابقة لما آلت إليه أحوال الناس مما جرى في سوق الأسهم، وبانقلاب حال السوق نحو التحسن في الأيام القليلة الماضية ناله من دعاء الناس ما هو أهل له، لكن على الناس الذين تورطوا في سوق الأسهم الآن أن يعوا ما يلي:
أولا: إن المضاربة في أسواق البورصات هي من أعلى أنواع الاستثمار مخاطرة. ولذلك من المهم أن يحدد كل مستثمر المخاطر التي يستطيع تحملها. والمستثمر الحصيف المتزن لا ينظر للعوائد فقط، بل يأخذ في اعتباره مقدار الخطر المصاحب لكل استثمار. فالناس يختلفون في مقدار الألم الذي يصيبهم عند تحقق الخسائر. فمن يخسر مليون ريال وثروته مائة مليون ريال لا يشعر بالألم نفسه الذي يشعر به من خسر مليون ريال وكل ثروته هي هذا المليون.
ثانيا: لا يصلح العمل في هذه البورصات إلا لمن يملك أموالا فائضة تماما عن حاجاته الأصلية، وأن تكون أموالا ذاتية المصدر غير مقترضة، مهما كانت المغريات, لأن تكاليف الاقتراض واضحة ومحددة وثابتة، بينما المكاسب التي قد يرى البعض أنها تفوق تكاليف القرض، هي أمر احتمالي, ولا يصح الاعتماد على مكسب محتمل لتغطية تكلفة ثابتة.
ثالثا: العمل العشوائي في مثل هذه الأسواق يضاعف من مقدار المخاطر. يجب أن تكون محفظة الاستثمار مبنية على أسس مالية سليمة ومعلومات صحيحة. لا تتبع الإشاعات دون تثبت من صحة معلوماتها، فقد ذكر لي بعض المستشارين الماليين أنهم فوجئوا بانتشار إشاعات وتوصيات عن طريق رسائل الجوال لم تصدر منهم.
وأخيرا: لا يصح أن يترك الناس مصادر رزق مستقرة إلى مصادر رزق غير ثابتة, فمن المجازفة التفرغ لأعمال مكاسبها احتمالية ومخاطرها عالية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي