الريادة والرواد ودورهم في تنمية الاقتصاد الوطني
تقوم الحرية الاقتصادية وفق الأفكار الأساسية لاقتصاد السوق والرأسمالية على أساس حرية الإنتاج التي تسمح للأفراد بإنتاج ما يريدونا إنتاجه وبالطريقة التي يرونها مناسبة للإنتاج ويحددون السعر الذي يعتقدونه مناسبا للسلع والخدمات التي أنتجوها. لقد خدم هذا المبدأ وبشكل كبير الكثير من الأفراد الذي استفادوا من هذه الحرية وقاموا بتأسيس شركات كبرى وأعمال عظيمة ارتبطت بأسمائهم إلى يومنا هذا، بل ارتبط اسم بعض هؤلاء المؤسسين بالدول التي ينتمون إليها، ولعل شركتي فورد ومايكروسوفت خير مثال على ما نقول. وقد كتب معظم هؤلاء المؤسسين الكبار سيرهم الذاتية وأصبحت تتدوال على نطاق واسع بل وتدرس في بعض الجامعات والمعاهد، حيث يستفيد الشباب الدارسون لإدارة الأعمال والعلوم الاقتصادية بالذات من هذه التجارب، وهي دعوة ومحاولة لإنجاب وصقل مواهب جيل جديد من الرجال الذين نسميهم "الرواد"، فهل الرواد هم من يؤسسون أعمالا كبيرة وهي بلا شك بدأت صغيرة أول الأمر؟
وبما أن الكبير بدأ صغيرا وتدرج في نموه إلى الصورة التي هو عليها اليوم، فإن هذا يعني أن مكمن الريادة في الأعمال الصغيرة أولا، ومن يستطيع أن يستمر وينمو ويحول العمل الصغير إلى شركة كبيرة هو "الرائد" والعملية التي قام بها هي "الريادة". إن الاقتصاد الوطني في كثير من دول العالم قائم على المشاريع الصغيرة حيث خلق فرص العمل والابتكار والإبداع ولكن في الوقت نفسه لو اطلعنا على الإحصاءات الخاصة ببعض الدول حول المشاريع الصغيرة لوجدنا أرقاما تكاد لا تصدق حول فضل هذه الأعمال، فقد أشار تقرير صادر من مدرسة لندن للأعمال بالاشتراك مع جامعة بابسون عند رصده حالة الريادة في 40 دولة أن 20 في المائة من المشاريع الصغيرة تفشل بعد سنة من إنشائها و 20 في المائة أخرى تفشل بعد السنة الثانية، والسبب هو أن أصحاب المشاريع كانوا على درجة عالية من التحفيز لبدء العمل الجديد ولكن هذا لا يكفي وحده، فتوافر المعلومات المناسبة ووجود فكرة عمل جدية ومتكاملة مع إدارة فاعلة هي عوامل ضرورية لنجاح العمل أو المشروع الصغير. لا نريد هنا أن نركز على المشاريع الصغيرة وعوامل نجاحها وإنما سينصب تركيزنا على الريادة والرواد والأهمية الكبرى التي يحظى بها هذا الموضوع الذي أشارت بعض الإحصاءات الخاصة بالكتب المنشورة إلى أن موقع "امازون" وحده يشتمل على أكثر من 5800 عنوان مختلف يغطي موضوع السلوك الريادي بجميع جوانبه، كما أنه أصبح مادة دراسية في كثير من الجامعات المرموقة بل حتى جامعات كثيرة في الدول النامية. هناك الكثير من الأفراد ممن لديهم المال والحيوية والشباب ولكن اندفاعهم الكبير باتجاه سوق الأسهم والمضاربة لاستثمار أموالهم يعني أن دافع الاستثمار وليس الاكتناز موجود، إذن لماذا لا يتوجه جزء من رأس المال المتاح لإنشاء أعمال ومشاريع صغيرة ولكن ليس مجرد تكوين مشروع وإنما يرافقه بذل مجهود لاستمرار هذا المشروع وبقائه وانتقاله إلى حالة أكبر مستقبلا. فالريادة هي الاستعداد والقدرات المتاحة للأفراد ضمن الأنشطة الاقتصادية المختلفة للمجازفة بإقامة الأعمال وإجراء توليفة ناجحة بين الموارد البشرية والموارد المادية لغرض إنتاج سلع وخدمات. والرائد هو من يقيم عملا يمتلك صفة الاستمرارية والبقاء بمعنى أن يملك مؤسس العمل مهارات إقامة أعمال لها مقومات الاستمرار والنجاح في بيئة الأعمال فهو لا يعتمد على عقد صفقة واحدة فقط، وبهذا المفهوم نجد أن فشل الكثير من الأعمال الصغيرة يعود إلى عدم تمتع أصحابها بالمهارات المشار إليها أعلاه. لقد أشارت بعض المراكز والإحصاءات إلى أن المشاريع الصغيرة هي مصدر مهم لخلق فرص العمل، فمثلا في أمريكا صارت تشكل مصدرا لأكثر من 50 في المائة من فرص العمل التي توفرها القطاعات الاقتصادية. والسؤال الذي يطرح هنا: كيف نجحت المشاريع الصغيرة بعد الحرب العالمية الثانية في بلدان أوروبا وبعض بلدان آسيا وقبلها بفترة طويلة في أمريكا في تحقيق هذا النجاح بينما لا تزال هذه المشاريع متعثرة لدينا أو على الأقل حققت نجاحا محدودا ؟ أعتقد أن السبب هو في "التربية الريادية " أولا ثم في "التعليم الريادي" ثانيا حيث تعتمد التربية الريادية في المراحل الدراسية الأولى، إضافة إلى المحيط الأسري الذي يشجع حب الاستطلاع والتساؤل والتفتح على ما هو جديد. بعدها تأتي محلة التعليم الريادي في المراحل الجامعية الذي يتسم بأسلوب التحليل وحل المشاكل والتفكير الناقد، وهو مناخ مغاير كما نرى لكثير من بيئات العالم الثالث وبيئتنا العربية بشكل خاص. فبالرغم من الجهود الجبارة التي بذلت في مجال التعليم سواء كان في مراحله الأولى أو الجامعية العليا فإن التركيز كان على الكم وليس النوع فضلا عن التربية الأسرية والمدرسية وما يتلو ذلك من تعليم تلقيني حتى في أعلى المراحل الدراسية. إن هذا الأمر لا يخلق روادا ولا ريادة وبالتالي فإن القدرات الإبداعية ستعاني من الضمور وحتى لو كان الحافز موجودا فهو لا يكفي وحده للنجاح كما أشرنا سابقا. وقد أشار الاقتصادي الفرنسي " ساي " إن الرائد هو الذي ينقل أو يحول الموارد الاقتصادية من استخدام منخفض الإنتاجية إلى استخدام عالي الإنتاجية وهذه إشارة إلى القدرات الكامنة التي تعطي العمل أو المشروع زخم البقاء والاستمرارية. ومن يمتلكون هذه القدرات لا يزال عددهم قليلا في بيئة الأعمال العربية لأن الغالبية اكتسبتها بالفطرة، ولا تزال المؤسسات العلمية غير قادرة على بناء أجيال من الرواد يقودون عملية التنمية في الاقتصاد الوطني. لقد شاع في البلاد العربية في فترة السبعينيات خاصة تأسيس شركات المقاولات في قطاع البناء وقد دخل هذا الميدان كثير من الشباب حفزهم النجاح الذي حققوه في المقاولة الأولى ثم الثانية والثالثة إلى تأسيس شركة كثيرا ما كتب لها النجاح والبقاء. وكانوا صورة مشرقة للرواد، ولا ينكر أن هناك أمثلة أخرى في مجالات عمل شتى ولكن عددها قليل بالنسبة لاقتصادات مثل الاقتصاد السعودي.
إن الريادة تعامل اليوم في أدبيات العلوم الاقتصادية على أنها أحد عوامل الإنتاج الرئيسية فلا تكفي عناصر الأرض والعمل ورأس المال وحدها لكي يكون هناك إنتاج. لقد كان للرواد دور في التوصل إلى ابتكارات غيرت مجرى التاريخ بشكل جذري، منها مثلا الطائرة والتكييف والبنسلين والأنسولين وكثير من المخترعات. ولكن هل هنا خصائص وسمات شخصية للرواد تميزهم عن غيرهم؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد من استعراض سير مشاهير رواد الأعمال والمؤسسين لأعمال كبيرة وناجحة استمرت على مدى عشرات السنين وهي لا تزال في أوج نجاحها وازدهارها ، وقد شخص الكثير من البحوث هذه السمات، فالقدرة والمهارة في الجمع بين الموارد المادية والبشرية هي سمة مشتركة للرواد بشكل عام، كما أن الرؤية الثاقبة والقدرة على اقتناص الفرص أو صنعها فضلا عن الاستقلالية وحب العمل والمثابرة والاجتهاد هي متممات أساسية للصفات السابقة. وهناك سمتان تشير إليهما الكثير من الدراسات المبنية على تجارب عملية وهما روح التحدي والاستعداد لخوض غمار المخاطرة ولكنها المخاطرة المحسوبة، وكذلك كون أغلب الرواد هم أبناء عائلات لديها أعمال تديرها سواء كانت ناجحة أولا.
وقبل اختتام هذه المقالة لا بد من الإشارة إلى أن التقرير الخاص بالتنمية البشرية الصادر عن البرنامج الإنمائي في الأمم المتحدة أوصى بتنمية ظاهرة الريادة والسعي الجاد لتطوير جيل من الرواد وتطوير القابليات الإبداعية وتحفيزها لديهم. إن أول سبل الدعم في اعتقادنا هو التوعية بأهمية الريادة والاعتراف بالدور المركزي لها وللإبداع والبحث والتطوير في إنعاش الاقتصاد الوطني. كذلك فإن تقوية العلاقات بين الجامعات والمؤسسات الصناعية والخدمية وتشجيع البحوث العلمية وتوجيه الطلاب لحل مشاكل عملية في القطاعات المختلفة هو أمر يساعد جدا في تنمية مواهب وقدرات هؤلاء الطلاب. ولا ننسى ما لحاضنات الأعمال والتكنولوجيا من دور في توفير رؤوس أموال مستعدة للمخاطرة في سبيل تحويل الأفكار إلى منتجات ذات مردود اقتصادي. إن مقومات بناء عملية الريادة وجيل من الرواد متوافرة ولكن كما قلنا سابقا فإن الحماس وحده لا يكفي ولا بد من البدء بالعمل والتطبيق ولا سبيل للنهوض بالاقتصاد الوطني إلا من خلال هذا الأمر.