"حماس".. هل تغير قواعد اللعبة؟
منذ أن حققت حركة حماس الإسلامية فوزها الكاسح في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني والذي يمكنها من تولي جزء مهم من السلطة عبر المجلس ورئاسة الحكومة, وهي تواجه بضغوط شديدة ومتعددة بهدف إلغاء فاعلية انتصارها القوي ونزع الغطاء عنها بجرها إلى منطقة المناورات السياسية بعيدا عن الثوابت التي ارتكز عليها برنامجها الانتخابي المنبثق من نهج المقاومة السياسية والعسكرية الذي جعلها تكتسح قوة وتاريخ منظمة كمنظمة فتح وتحقق الأغلبية المطلقة, فمنذ البدء وحتى قبل ممارستها لسلطاتها الفعلية رفعت في وجهها مطالب إسرائيلية وأمريكية وحتى أوروبية مقابل قبول التعامل معها سياسيا وهي أن تعترف بـ "حق" دولة العدو الصهيوني بالوجود والتخلي عن المقاومة باسم نبذ العنف والإرهاب, ومن يقلب هذه المطالب ويتفحصها يدرك على الفور أن وراءها هدفا هو تجريد حماس من أسس وعناصر برنامجها الانتخابي الذي حقق لها كسب ثقة الشارع الفلسطيني الذي مل وزهق من المفاوضات عديمة الجدوى والعقيمة توقيع اتفاقيات تمحي فاعليتها وقيمتها لحظة توقيعها ووعود بدولة لا موعد لها ولا كيان واضح المعالم والحدود, وصاحب هذه المطالب تهديدات بقطع المعونات الاقتصادية إلى جانب عدم التعامل مع "حماس" سياسيا.
من قراءة سياسية لهذه المطالب ندرك أن الهدف الأساسي هو ترويض "حماس" مقدما وإدخالها في متاهات الحلول السياسية غير المبنية على مرجعية واضحة وملزمة للطرف الإسرائيلي كما هي عليه جميع الاتفاقيات السابقة التي يحتاج كل منها إلى جولات من المفاوضات واتفاقيات إلحاقية تشبه فزورة أيهما أسبق البيضة أم الدجاجة ثم تنتهي إلى لا شيء, ومحاولة استباقية لجرها إلى تقديم التنازلات المتتابعة كما فعلت مع السلطة سابقا ومنذ توقيع اتفاقية أوسلو, فاللعبة السياسية التي مارستها وما زالت تمارسها إسرائيل مع الفلسطينيين هي لعبة تضييع الوقت والإلهاء باتفاقيات على ورق والضغط عليهم دائما لتقديم تنازلات بحجة بناء الثقة ومن دون مقابل من الطرف الإسرائيلي, وابتكار مشاريع حلول دولية, ودائما من خلال الولايات المتحدة التي تلعب دور "الوسيط", توضع كإطار للحل تتضمن بنودا تفصل لتحميل الفلسطينيين كل الأعباء والتبعات كما هو الحال مع ما سمي بخريطة الطريق الأمريكية وتفاهمات "تنيت" الوسيط الأمريكي وغيرها مما مر عليها الوقت دون أن تثمر عن أي شيء عملي وفعلي, فالسلطة الفلسطينية مثلا تتمسك بخريطة الطريق بينما شارون تحفظ عليها بـ 14 نقطة جعلها حجة للتملص بها من أي التزامات حيالها, أما تفاهمات "تنيت" فقد ذابت ولم يعد لها وجود بعد أن استنفذت أغراضها.
إلا أن مجيء حركة حماس بمنهجها المقاوم وبأغلبية شعبية حققتها من خلال انتخابات ديمقراطية شهد الجميع بنزاهتها, وتمسكها المعلن والواضح بهذا المنهج واتضاح إطاره السياسي القائم على عدم التفريط أو التنازل عن أي حقوق, ينبئ بأنها في طور قلب قواعد اللعبة السياسية الإسرائيلية الأمريكية معا, وإعلان عن أن مرحلتها مختلفة عما سبقها, فهي لن تتعامل سياسيا إلا بناء على وقائع وحقائق, وأنها لن تقدم التنازلات المجانية حتى ولو كانت باسم السلام الغائب والمغيب, وهذا واضح من صمودها القوي في الاختبار الأول لها برفضها الإذعان لمطلبي الاعتراف والتخلي عن المقاومة بمنطق سياسي قوي يقول كيف تطالبوننا بالاعتراف بمن لا يعترف بنا أصلا ولا بحقوقنا, وكيف نوقف مقاومة وأرضنا محتلة..؟ وهذه مؤشرات على أن "حماس" ومن خلال المجلس التشريعي والحكومة التي سوف تشكلها ستتعامل بأسلوب مغاير لما كان, من جهة عدم الانجرار خلف مناورات سياسية لا تسمن ولا تغني وتستخدم فقط لجلب التنازلات الفلسطينية باسم ترسيخ أسس السلام الموعود وإغراءات بدولة ما زالت لغزا لا حل له.
لقد دأبت دولة العدو الصهيوني ومنذ البدء بما سمي بعملية السلام انطلاقا من مؤتمر مدريد ومن ثم توقيع اتفاقية أوسلو من خارج ما سمي بمرجعية مدريد وهي الأرض مقابل السلام, على التعامل بأسلوب التسويف وإدخال الفلسطينيين في متاهات تفاوضية تبدأ ولا تنتهي, وهذه خطة إسحق شامير رئيس وزراء الكيان الصهيوني الأسبق وأثناء مؤتمر مدريد والقائمة على اعتماد أسلوب التفاوض الطويل والممل من خلال التركيز على جزئيات صغيرة ومتناثرة لإبعاد التفاوض عن القضايا الجوهرية, إلا أن "حماس" لن تقع فريسة لهذا الأسلوب الإسرائيلي كما اتضح في مواقفها خصوصا من مسألتي الاعتراف والمقاومة, والظن بأن إسرائيل ومعها الولايات المتحدة أدركوا أن التعامل مع موقف سياسي منبثق من نهج مقاومة حقيقية ومدعوم شعبيا ويعبر عنه بطريقة استشهادية سوف يكون بالغ الصعوبة, وهذا ما يوضح حدة ردة الفعل الإسرائيلي والأمريكي والمتمثل في التهديد بقطع الدعم الاقتصادي, ولهذا فإن المؤشرات تؤكد أن الأسلوب الذي سوف تسير عليه "حماس" سوف يغير فعلا من قواعد اللعبة السياسية الجارية التي وضعتها إسرائيل وتعاملت بها حتى اليوم ويلغي فاعليتها لكون المرحلة المقبلة مرحلة تأسيس المقاومة السياسية المدعومة بالمقاومة المسلحة, وهذه نقلة مهمة وفعالة لإسقاط المفهوم الإسرائيلي الذي فرض منطقه في السابق من خلال لعبة عملية السلام التي استخدمت كحصان طروادة لاختراق التماسك العربي والتسلل بها داخل العالم العربي تحت حجج واهية مثل كسر الحواجز النفسية وإبداء النوايا الحسنة واتخاذ مبادرات سلمية لطمأنة الشعب الإسرائيلي بأن العرب باتوا حملانا وليسوا ذئابا, وكان خطؤنا الأبرز حين اعتبرنا السلام خيارا استراتيجيا فيما تعاملت معه دولة العدو الصهيوني على أنه خيار استسلام لمشاريعها.