سوق الأسهم بين الأمس واليوم

يُعد عام 1977م بداية الانطلاقة الفعلية لسوق تجارة الأسهم في المملكة، حيث شهد ذلك العام طرح حصص ملموسة من رؤوس أموال عدة شركات كبيرة للاكتتاب العام بين المواطنين، كان في مقدمتها البنوك الأجنبية بعد سعودتها والشركة السعودية للصناعات الأساسية (سابك)، التي بلغت نسبة ما بيع من أسهمها للجمهور 30 %، بينما احتفظت الدولة ممثلة في صندوق الاستثمارات العامة بالنسبة المتبقية حتى يومنا هذا. وبالرغم من أن تلك الاكتتابات المتتالية أدت إلى توسعة قاعدة مالكي الأسهم في السوق بشكل غير مسبوق، إلا أنها ظلت في مجملها قاعدة محدودة من حيث العدد مقارنة بالملايين من مالكي الأسهم اليوم.
لا يقتصر وجه المفارقة بين الأمس واليوم في عدد المشاركين فحسب، بل أيضاً في اختلاف الأدوار وقنوات وآليات التداول. ففي الماضي، أي قبل ثلاثين عاماً تقريباً، كان انتقال ملكية الأسهم من يد إلى يد أخرى عملية بطيئة تتطلب الكثير من الخطوات والمستندات، تبدأ بتعبئة نموذج مبايعة ثم المصادقة عليه، وبعد اكتمال هذه الخطوة يُحدد موعد لمراجعة قسم شؤون المساهمين في الشركة المعنية بحضور طرفي المبايعة أو إبراز وكالة شرعية إن غاب طرف أصيل. وفي كل الأحوال لا يجد المشتري بُداً من الانتظار أياماً إلى أن يتسلم شهادة أسهمه الجديدة قبل أن يتمكن من عرضها للبيع في السوق مرة أخرى. وكذلك الحال بالنسبة للبائع أن تبقى رصيدا في شهادة أسهمه بعد خصم الكمية المباعة، فعليه الانتظار لفترة مماثلة قبل استلام شهادة جديدة تثبت الرصيد المتبقي. لذا كان يلجأ مالكو الأسهم إلى تجزئة شهاداتهم الكبيرة (والمقصود بالكبيرة بمقاييس تلك الأيام ما زاد على 5000 سهم) إلى شهادات أصغر يسهل تصريفها دون التورط في إشكالية تجميد الأرصدة أثناء الفترة التي تستغرقها خطوات نقل الملكية أو ما كان يُعرف بعملية " الإفراغ ".
ولك أن تتصور الوقت المُهدر في تلك العملية والمشقة التي يتكبدها كل طرف، ولاسيما إن كان من بينهم نساء أو مقيمون خارج مدينة الرياض. ويزداد الطين بلة إذا كانت الأسهم المباعة في الشهادة موزعة على أكثر من مشتر، إذ يتطلب الحال استكمال إجراءات الجميع المسافر منهم والحاضر قبل أن يحصل أي طرف على حقه!.
بالطبع أسهمت تلك الآلية المُعقدة لتداول الأسهم في إحجام الكثير عن المتاجرة فيها بـيعاً أو شراء أو ما يُطلق عليه "السوق الثانوية". كما أن غياب مؤسسات رسمية تُعنى بتنظيم ذلك النشاط أدى إلى نشأة مكاتب أهلية (فردية في الغالب) لسد حاجة السوق إلى قنوات يتبادل من خلالها أفراد المجتمع هذا الشكل الجديد من أشكال ملكية الأصول والثروات. كانت تلك المكاتب تُعد على أصابع اليدين وتُعرف بأسماء أصحابها، لا يخطئهم أحد حتى لو أشير إليهم بكنيتهم فقط. فالكل كان يعرف مَن المقصود إن قيل "أبو أحمد"، "أبو عبد الله"، "أبو إبراهيم"، أو "أبو ياسين".
لقد شكّلت مكاتب الأسهم يومئذ في مجموعها سوقاً للبورصة، ففيها كانت تلتقي رغبات البائعين والمشترين التي في ضوئها يتحدد السعر العادل للسهم، وفيها كانت تتم عمليات المقاصة بين جميع الأطراف. بل إن المكاتب لم تكتف بممارسة تلك الأدوار المهمة، إذ لعب بعضها دور صانع للسوق فيشتري بين الحين والآخر كميات كبيرة من أسهم معينة لحسابه للمحافظة على مستويات مستقرة للأسعار، كما ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك بإدارة محافظ استثمارية لحساب الآخرين من بينهم رجال أعمال ومسؤولين ذوي مناصب مرموقة. بمعنى آخر، كانت تلك المكاتب تقدم خدمات في السوق الثانوية للأسهم أوسع وأكثر شمولية مما تقدمه أي مؤسسة مالية بمفردها اليوم. كما أن التعامل معها في السنين الأولى لنشأتها كان يتسم بالانضباط والأمانة، فلم تكن هناك تربة صالحة لانتشار الإشاعات المضللة كما نشاهد في السوق اليوم. إذ كان من السهل يومئذ تحديد مصدر الإشاعة ووأدها في مهدها بمكالمة هاتفية قصيرة لأي من تلك المكاتب. وبالرغم من ندرة المعلومات المتوافرة في تلك الأيام عن أداء الشركات المساهمة والتكتم الشديد على برامجها، إلا أن المستثمر كان يجد في مكاتب الأسهم وصوالينها قدراً لا بأس به من الأرقام والحس الجيد لترجمة تلك الأرقام، ما يساعده على اتخاذ قرارات سليمة في العادة.
لكن مع كل الإيجابيات التي كانت تتميز بها أعمال مكاتب الأسهم، والتي نفتقد بعضاً منها في سلوكيات السوق اليوم، فما كان لها أن تصمد أمام النمو الهائل في حجم التداولات اليومية والارتفاع الكبير في قيمتها. وقد أسهم في تراجع دور تلك المكاتب وخروجها من الساحة تدريجياً، مباشرة البنوك في تقديم خدمات بيع وشراء الأسهم بواسطة نظام "تداول" الإلكتروني تحت إشراف مؤسسة النقد العربي السعودي منذ عام 1990م الذي يجري تطويره وتحديثه بشكل دوري. ومن مزايا هذا النظام أن عمليات حسم المبالغ من حساب المشتري وإضافتها لحساب البائع، وكذا نقل ملكية الأسهم من البائع إلى المشتري تتم بشكل تلقائي لا يستغرق لحظات من الزمن.
كما أن من مزايا نظام "تداول" أنه يوفر حزمة كبيرة من المعلومات للمستخدمين وكذلك لجهات الرقابة تساعد في متابعة السوق وإدارته. ثم إن صدور "نظام السوق المالية" قبل نحو عامين، وإنشاء هيئة السوق المالية سد الثغرة الكبيرة التي كانت تعاني منها سوق الأسهم السعودية وهي غياب تشريعات تحمي المواطن من الاستغلال والتضليل والتلاعب في الأوراق المالية.
بقي من الأدوار التي كانت تلعبها مكاتب الأسهم وغابت معها سوق البورصة وصانع السوق. وهما دوران مهمان لا بد من توفيرهما في السوق المالية اليوم كي نستطيع القول إن منظومة السوق قد اكتملت في كل جوانبها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي