أنا وخالد عثمان.. من ضحايا الترجمة
الأزمة الثقافية التي يمر بها عالمنا العربي تمتد إلى قطاعات مختلفة وإلى نواح متعددة في حياتنا اليومية. إن الاقتباس من الحضارات الأخرى أمر طبعي. لكن هناك فرق بين الاقتباس الأعمى والاقتباس الناتج عن رؤى وأفكار مستنيرة ترى في تفاعل الحضارات تقدماً للإنسانية. إن الترجمة عن اللغة الإنكليزية أمر لا بد منه، لكن علينا أن نتقن الإنكليزية أولاً. إن إصرارنا على النقل عن اللغة الإنكليزية رغم ضعفنا في هذه اللغة يوضح أحد أبعاد أزمتنا الثقافية. لكن الجرح أعمق من ذلك لأن الكثير من مشاكل الترجمة لا تعود إلى ضعف الكاتب أو المترجم في اللغة الإنكليزية فحسب، بل إلى ضعفه حتى في مفردات اللغة العربية. كل ما علينا أن نطالع صحفنا "العربية" لنرى مدى شطارة الكتاب والصحافيين في اللغتين "العربية" و"الإنكليزية".
ورد في تقرير لصحيفة عربية مشهورة أن أسعار "دبليو تي آي" تحسنت بخجل عن 64 دولارا بسبب تأزم المتعاملين بشأن عروض الجازولين. هل فهم القارئ العربي أي شيء من هذا الخبر؟ الترجمة الصحيحة هي أن أسعار نفط غرب تكساس ارتفعت إلى ما يقارب 64 دولاراً للبرميل، بسبب قلق التجار بشأن توافر إمدادات البنزين. كما قامت صحيفة عربية معروفة بإعداد تقرير عن النفط ورد فيه "الضغط نحو الأسفل" بدلاً من "العوامل المخفضة لأسعار النفط"! هل تعلمون ما هو "أثر المخزون الصناعي على أسعار نفوط الإشارة" والتي وردت في مجلة عربية أكاديمية؟ كان من المفروض أن تقرأ كما يلي: أثر المخزون التجاري لصناعة النفط على سعر الخامات القياسية! وكأن اللغة العربية عاجزة تماماً، أتحفنا كاتب معروف في صحيفة مرموقة بمقال يتحدث فيه عن المشاعر "الأنتي أمريكية" عند العرب.
المشكلة قد تتفاقم لأن البعض ينظر إلى الصحافة على أنها مراجع أساسية ويفترض صحة ما ورد فيها رغم أن العديد من كبار المسؤولين حول العالم عزفوا عن الكلام مع الصحافة بسبب الأخطاء الهائلة في نقل الكلام إلى القارئ. فإذا كان هناك خطأ في الترجمة، ثم قام باحث أو كاتب مرموق بكتابة بحث أو مقال بناء على تلك المعلومة، ثم جاء باحث أو كاتب آخر واستخدم هذا البحث أو المقال كمرجع، فإن الخطأ يتفاقم مع الزمن حتى نصل إلى وقت ينظر الناس فيه إلى هذه المعلومة على أنها حقيقة.
ففي كتاب مشهور عن الربا، والذي يتم النقل عنه في كل ما كتب عن الربا حتى في رسائل الدكتوراه، ينقل الكاتب مقولة عن أبي الرأسمالية جون مينارد كينز تفيد بأن كينز يرى أن الربا (أسعار الفائدة) مضر بالاقتصاد. وبالرجوع إلى النص الأصلي بالإنكليزية، نجد أن كينز أشار إلى أن أسعار الفائدة "المرتفعة" مضرة بالاقتصاد! سقطت كلمة "مرتفعة" من الترجمة فغيرت المعنى وضربت نظرية كينز في الصميم. ولم يقتصر الأمر على ذلك بل بني عليها تراث ضخم في الاقتصاد الإسلامي. إن الكلمة في بعض الأحيان أقوى من أشد القنابل في العالم، لأن القنابل لا تستطيع أن تغير في الأفكار كما تغيره كلمة واحدة كما في المثال السابق.
هناك العشرات من الأمثلة، لكنني سأشير إلى حادثة تعبر تماماً عما سبق وتوضح كيف يمكن لعدة أشخاص أن يقعوا ضحية خطأ في الترجمة. نشرت "الاقتصادية" بتاريخ 9 من ذي القعدة مقالاً بعنوان "قيمة النفط والوضع القانوني لأوبك" للأستاذ خالد أحمد عثمان، وهو من ألمع كتاب الصحافة العربية المتخصصة في مجال القانون، ومن الكتاب الذي أقرأ لهم باستمرار. المقال هو تعليق على خبر نشرته صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 25 شوال، 1426 عن محاضرة ألقيتها في دبي عن أسعار النفط باللغة الإنكليزية (مع بعض العربية). الأستاذ خالد وقع ضحية الصحافي الذي كتب الموضوع لأن الصحافي لم يستطع أن يترجم ما معناه "لا أعتقد ولم أعتقد على الإطلاق أن أوبك منظمة احتكارية، ولا يمكن لها أن تصبح منظمة احتكارية". هذه العبارة نشرت ترجمتها في "الشرق الأوسط" على الشكل التالي "لا أؤمن ولم أؤمن قط بأن أوبك منظمة، وهي لن تكون أبداً منظمة".... وهكذا سقطت كلمة "احتكارية" مرتين، الأمر الذي أدهش رجل القانون، ومعه كل الحق في ذلك. فكيف لا يمكن أن تكون أوبك "منظمة"، واسمها "منظمة" الأقطار المنتجة والمصدرة للنفط؟
لكن رب ضارة نافعة. فخطأ الترجمة أسهم في زيادة الثقافة النفطية عندما أشار الأستاذ خالد في مقاله إلى كل الأمور القانونية التي تثبت أن أوبك "منظمة" دولية، وهو أمر يشكر عليه لأن ثقافتنا النفطية بحاجة إلى مثل هذا النوع من الكتابات. ولكن يبقى حتى الآن السؤال: هل أوبك منظمة احتكارية؟ الجواب على هذا السؤال يتكون من شقين أحدهما قانوني والآخر اقتصادي. لذلك سأقوم في المستقبل بطرح الموضوع من ناحية اقتصادية، آملاً أن يقوم الأستاذ خالد أحمد عثمان بطرح الموضوع من ناحية قانونية...بعيداً عن ترجمات الصحافيين!