Author

على هامش الجنادرية

|
<a href="mailto:[email protected]">[email protected]</a> تتبلور نشاطات مهرجان الجنادرية في مسارين متوازيين متمايزين: الأول هو النشاط الاحتفالي الشعبي الذي يعنى بالفنون والحرف التقليدية والحياة الشعبية بجميع تجلياتها وأنماطها، والثاني هو النشاط الفكري الذي يعنى بالندوات والمحاضرات الثقافية، ولعل نقل الندوات والمحاضرات في السنوات الأخيرة من موقع الجنادرية إلى داخل المدينة من المؤشرات التي تؤكد تمايز هذين المسارين في التوجه وفي المضمون. وسوف أتوقف أمام النشاط الشعبي الاحتفالي فقط للرد على سؤالين كثيرا ما سمعتهما يترددان في الوسط الاجتماعي. هذان السؤالان هما؛ أولا: هل لنا حقا أن نفخر بما يعرض في الجنادرية من حِرف وصناعات وفنون تقليدية؟ وثانيا: هل مردود الجنادرية، أيا كان، يوازي ما يصرف عليها من مبالغ باهظة؟ من الفقرات الرئيسية في مهرجان الجنادرية فقرة سباق الهجن. وسباق الهجن في الجنادرية ما هو إلا مظهر من مظاهر حبنا واعتزازنا بهذا الحيوان الذي ارتبط مصيرنا ومصيره منذ فجر التاريخ حتى وقتنا هذا، الذي بدأنا فيه نفقد كل شيء أصيل نابع من بيئتنا ومنسجم مع طبيعتنا. قصة الإنسان العربي مع الإبل قصة طويلة، إن كنا نوشك أن نشهد نهايتها في وقتنا الحاضر فإن بدايتها تسبق ذاكرة التاريخ. فهذا الحيوان العجيب هو الذي رجح كفة الإنسان في معركة البقاء تحت ظروف الصحراء القاسية منذ آلاف السنين. ولأهمية الإبل بالنسبة لابن الصحراء نجدها تحتل مركزا أساسيا في تفكيره وشعوره، فهو يتغنى بناقته ويفتخر بها ويمدحها في قصيدته قبل أن يتغنى بحبيبته ويفتخر بنفسه ويمدح قبيلته، ولطالما تغنى الشعراء بسرعة جريها وتناسق أعضائها ورشاقة حركاتها. ومن باب الوفاء والعرفان بالجميل ينبغي أن نخلد ذكرى هذا الرفيق الوفي الذي سلبت منه الآلة دوره الذي أداه بصمت وجدارة. ونتطلع إلى تطوير سباق الهجن ليشمل مظاهر أخرى من مظاهر الحياة التقليدية الماضية مثل سباق الخيل (لما بين الخيل والإبل من علاقة حميمة)، وربما أيضا استعراض ضخم يصور حياة البادية في حلهم وترحالهم وكذلك حالات الكر والفر والغارة على أذواد الإبل ثم طلب الإبل من قبل أصحابها لاسترجاعها من الأقوم المغيرة. وتكون هذه المناظر الحربية الاستعراضية مشتملة على مشاهد مثيرة مستمدة من الواقع، مثل نصب الكمين والصابور والمبارزة على الخيل والحداء والسلاح القديم من رمح وسيف ودرع وطاسة وما إليها، وكذلك مشاهد المنع والشلع والقلع والعطفة وبيت الحرب، وغير ذلك من الممارسات التي نسمع بها ولا نعرف عنها ولم نشاهدها. ويمكن أن تتخلل هذه السباقات والاستعراضات رقصات العرضة والزامل والدحة والمصنّع. أما عن أهمية المهرجان بشكل عام، فإن المختصين في الدراسات الفلكلورية والاجتماعية يجمعون على ضرورة المهرجانات الاحتفالية كعنصر من أهم عناصر الاندماج والانصهار الثقافي والاجتماعي لدى كل أمة. من مهام المهرجانات أنها تربط بين الماضي والحاضر وتقيم جسور التواصل بين الأجيال وتضمن الاستمرارية الحضارية والتوازن الاجتماعي أمام تحدي التغيرات وحتمية التحولات. كما أن المهرجانات تعمل على بلورة الشعور الجماعي والإحساس المشترك، وعلى تكريس الهوية الوطنية وبلورة الحس التاريخي الذي ينمي الثقة بالنفس. ونحن نفتقد هذه الظاهرة في مجتمعنا، حتى عيد الأضحى وعيد الفطر تحولا إلى مناسبات باهتة تفتقد مسحة الفرح ومظاهر البهجة، كذلك هي الأعراس والحفلات. وبخلاف جيراننا من الأمتين العربية والإسلامية نحن لا نحتفل بمولد الرسول (ص) ولا نحتفل باليوم الوطني. لذا فإن الجنادرية كمناسبة احتفالية بهيجة تلعب في نظري دورا مهما في سد هذا الفراغ، ولا أدل على ذلك من توافد الجماهير الغفيرة عليها بهذه الحشود الهائلة. كما أن تلك المهرجانات كثيرا ما تتحول إلى معالم سياحية تدر أرباحا ضخمة على البلد الذي تقام فيه، وتكون وسيلة جيدة للدعاية والإعلام وتعريف الزوّار بحضارة البلد. والمملكة العربية السعودية كوحدة سياسية أصبحت الآن حقيقة واقعة ومن المسلمات التي لا تقبل الجدل. لكنها من الناحية الثقافية والاجتماعية لا تزال في طور الصهر والتكوين، ذلك لأنها تتألف أساسا من فئات اجتماعية ومناطق ثقافية متباينة كانت حتى عهد قريب تشكل كيانات متمايزة كل منها يعمل جاهدا على دعم استقلاليته وتكريس خصوصيته. الجنادرية أصبحت الآن من المؤسسات التي تلعب دورا فعالا وملموسا في ترجمة وحدتنا السياسية إلى وحدة ثقافية واجتماعية، وتسهم في تحويل هذا الوطن من مجرد كيان سياسي إلى أمة واحدة وشعب واحد تربط بين أبنائه أواصر الأخوة، وتسود بينهم مشاعر الألفة وتشيع بينهم روح المودة وتجمع بينهم وحدة المصير والإحساس المشترك بالولاء والانتماء. المتفرج مثلا حينما يأتي إلى الجنادرية من المنطقة الوسطى أو الشمالية ويشاهد رقصة الخطوة أو المجرور، أو حينما يأتي من المنطقة الجنوبية ويشاهد الدحة أو الخمّاري فإنه لم يعد ينظر إلى هذه الفنون على أساس أنها تمثل مناطق جغرافية معزولة عن بعضها، بل ينظر إلى كل ما يشاهده على أساس أنه جزء من موروث هذا الوطن الكبير الذي ينتمي إليه ويحمل جنسيته. كذلك الفرق التي تأتي من مختلف مناطق المملكة ليقدم كل منها لونها المتميز، حينما تجمعها هذه المناسبة الوطنية في هذا المكان الواحد تبدأ في التفاعل مع بعضها البعض وتنصهر في بوتقة ثقافية واحدة وتندمج مع بعضها في عمليات التأثير والتأثر وفي جدلية الأخذ والعطاء. والإعداد للجنادرية يتطلب الكثير الكثير من الوقت والجهد والتنسيق والتنظيم. وإذا ما وضعنا في الحسبان أن المهرجان يقام كل سنة وأنه في كل مرة يحقق نجاحا ملموسا، وأن الذين يقومون بعمليات الإعداد والتنظيم والإشراف كلهم من الشباب السعودي المتحمس الذي يؤدي دوره باقتدار، فإن هذا في حد ذاته إنجاز وإيما إنجاز. أن يتعود المواطن السعودي على العمل كعضو في فريق متساند متعاضد، وأن تنغرس روح التعاون في شخصيته وتصبح جزءا من تركيبته، هذا دليل ملموس ومشرف على أننا قطعنا مرحلة لا بأس بها على طريق التقدم الحضاري الصحيح. هذا جزء من تنمية الإنسان، والذي كثيرا ما نتحدث عنه ونبشر به في خططنا التنموية. المشروع الحضاري الذي نطمح إليه بحاجة إلى تكاتف الأيدي وتضافر الجهود، ولذا لا بد من تنمية هذه القيمة في نفوس شبابنا والعمل على تعزيزها وصقلها من خلال التجارب العملية مثل تجربة الجنادرية. وبالمناسبة فإن كل ما سبق ذكره من إيجابيات عن الجنادرية ينسحب أيضا على النشاطات الرياضية وعلى المعارض التي تقام خارج المملكة، وما شابه ذلك من المشاريع التي تجمع بين أبناء المملكة من مختلف المناطق ليطوروا كفاءاتهم ويصقلوا مهاراتهم ويتعاونوا فيما بينهم، وينصهروا في فريق واحد يمثل هذا الوطن الواحد. أي أن فكرة هذه المشاريع في حد ذاتها بناءة وأهدافها نبيلة ونتائجها حتى وإن كانت غير منظورة ستعود بالخير على الوطن وعلى المواطن. ولكن هذا لا يمنع من المحاولة قدر الإمكان أن يرشد الإنفاق على هذه المشاريع، وأن يتم التعامل الإعلامي معها بطريقة ذكية حتى تحقق الأهداف المرسومة لها على الشكل المطلوب.
إنشرها