حرية التعبير بين القانون الدولي والمعايير الغربية المزدوجة

لا جدل أن حرية التعبير عن الرأي تعتبر من الحقوق الأساسية للإنسان التي حرصت دساتير وقوانين كثير من الدول على تأكيدها ووضعت الضوابط اللازمة لممارستها. ونظرا لما للصحافة من أهمية وتأثير كبير في تكوين الرأي العام، فقد حظي تنظيمها باهتمام خاص من قبل المشرعين، فهي في ظل النظم الاستبدادية مكبلة بقيود شديدة، وهي في ظل النظم الديمقراطية تتمتع بحرية واسعة في إطار ضوابط عادلة لآداب التعبير وضمان عدم التعدي على حقوق الغير. ولقد كانت حرية التعبير الحجة التي تذرعت بها الجريدة الدنماركية "يولاندز بوستن" لتبرير نشرها رسوما كاريكاتورية تتطاول على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتزدري بالدين الإسلامي على نحو بشع وكريه. وهي الحجة التي تذرع بها أيضا أندريز فوج راسموسن رئيس وزراء الدنمارك عندما رفض في بداية الأزمة الاجتماع مع مجموعة من سفراء الدول الإسلامية الذين كانوا يسعون إلى التعبير عن استنكارهم وقلقهم إزاء هذه الرسوم المسيئة. وسبق لنا تفنيد هذه الحجة ودحضها في مقال سابق بعنوان "للذود عن الإسلام والرسول" نشر في جريدة "الاقتصادية" في العدد الصادر يوم الخميس 3 المحرم 1427هـ الموافق 2 شباط (فبراير) 2006. واستكمالا لما قلناه في مقالنا السابق، نود هنا أن نسلط بعض الضوء على حرية التعبير عن الرأي في إطار القواعد المستقرة في القانون الدولي العام، وفي ضوء الممارسات الغربية، فنقول ما يلي:
أولا: في الدورة الأولى التي عقدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1946، قررت أن حرية الإعلام حق أساسي من حقوق الإنسان، ومحك لجميع الحريات التي نذرت الأمم المتحدة لها نفسها، وبناء على ذلك طلبت من المجلس الاقتصادي والاجتماعي مناقشة هذا الموضوع ووضع اتفاقيات دولية منظمة بشأنه.
ثانيا: في 10 كانون الأول (ديسمبر) 1948، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 217، الذي اعتمدت بموجبه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وقد نصت المادة 19 من هذا الإعلان على ما يلي:
(لكل إنسان الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين بأي وسيلة دون اعتبار للحدود).
ويبدو واضحا من قراءة هذا النص أنه جاء كمبدأ عام يهدف إلى التأكيد على حرية الرأي وحق التعبير عنه، ولكنه لم يضع الضوابط المحددة لكيفية ممارسة هذا الحق، ولذلك جاءت هذه الضوابط في وثائق دولية لاحقة.
ثالثا: في 16 كانون الأول (ديسمبر) 1966 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 200 باعتماد اتفاقية أطلق عليها اسم "العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية"، وقد أصبح هذا العهد نافذا اعتبارا من 23 آذار (مارس) 1976، وقد نظمت المادة 19 من هذه الاتفاقية الحق في حرية الرأي والتعبير، حيث نصت على ما يلي:
1 – لكل إنسان الحق في اعتناق آراء دون مضايقة.
2 – لكل إنسان الحق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها.
3 – تستتبع ممارسة الحقوق المنصوص عليها في الفقرة 2 من هذه المادة واجبات ومسؤوليات خاصة. وعلى ذلك، يجوز إخضاعها لبعض القيود ولكن شريطة أن تكون محددة بنص القانون، وأن تكون ضرورية:
أ – لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم.
ب – لحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة.
ثم وضعت المادة 20 من هذه الاتفاقية حظرا على حق التعبير عن الرأي في حالات محددة تضر بالمجتمع الدولي، فنصت على ما يلي:
1 – تحظر بالقانون أية دعاية للحرب.
2 – تحظر بالقانون أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف.
ويرى بعض فقهاء القانون أن حظر الدعاية من أجل الحرب يقتصر فقط على الحرب العدوانية ولا يشمل الحرب من أجل الدفاع عن النفس أو لإخراج العدو من الأقاليم المحتلة، فهذه الحرب جائزة بحكم ميثاق الأمم المتحدة الذي حظر الحرب العدوانية، ولكنه أجاز الحرب الدفاعية.
رابعا: في 16 كانون الأول (ديسمبر) 1952، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 630 باعتماد الاتفاقية الخاصة بالحق الدولي في التصحيح، وقد أصبحت هذه الاتفاقية نافذة اعتبارا من 24 آب (أغسطس) 1962، وقد وضعت هذه الاتفاقية القواعد الخاصة بحق تصحيح المعلومات الكاذبة والمحرفة التي تنشرها وسائل الإعلام ووجوب تفادي نشر هذه المعلومات ومسؤولية من يقوم بنشرها.
نخلص من جميع ما سبق إلى أن المواثيق الدولية وإن أكدت على حرية الرأي وحق التعبير عنه، إلا أنها لم تجعله حقا مطلقا من أي ضوابط. وأن من أهم ضوابط ممارسة هذا الحق احترام حقوق وسمعة الآخرين وعدم التحريض على الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية. والواقع أن الرسوم الدنماركية هي تحريض صريح على كراهية المسلمين، ولا تتوافق البتة مع مبدأ حرية التعبير.
وطالما أن الدنمارك عضو في الاتحاد الأوروبي، فمن المناسب أن نذكر بالحكم الذي أصدرته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في 21 كانون الثاني (يناير) 1999، المتضمن أن حرية الصحافة لا تعني عدم مساءلة تجاوزات حرية التعبير متى كانت تندرج تحت الأفعال المجرمة في قانون العقوبات. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه توجد مادة في القانون الجنائي الدنماركي تعاقب من يسب علنا دينا تعترف به الدولة. والإسلام هو أحد الأديان المعترف بها في الدنمارك. ومع ذلك قضى النائب العام الدنماركي بعدم قبول شكوى تقدمت بها 11 منظمة إسلامية ضد الجريدة التي أقدمت على نشر الرسوم المسيئة للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وقد استند النائب العام الدنماركي في موقفه إلى مبدأ حرية التعبير عن الرأي.
وقد أيدت بعض الأوساط السياسية والإعلامية الأوروبية الموقف الدنماركي استنادا إلى حجة حرية التعبير، وهي حجة داحضة في ضوء القواعد الدولية سالفة الذكر، كما أن التذرع بهذه الحجة لتبرير هذا الموقف يدل على ازدواجية المعايير الغربية والكيل بمكيالين في هذا الشأن. وهو نهج دأب عليه الغرب وأصبح ديدنه، وندلل على ذلك بالسوابق التالية:
1 – في أواخر عقد الثمانينيات من القرن الماضي أصدرت إحدى الجامعات الفرنسية قرارا لا سابقة له، يقضي بسحب درجة الدكتوراة من أحد الباحثين، الذي شكك في رسالته للدكتوراة في أعداد ضحايا المحرقة النازية من اليهود في أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية. وبالرغم من أن موضوع الرسالة كان من الموضوعات العلمية في مجال التاريخ، وبالرغم من أن الباحث حصل على الدكتوراة بعد إجازة رسالته طبقا للأصول العلمية المرعية، إلا أن الضغط الصهيوني الشديد استطاع أن يرغم الجامعة على أن تهدر مبدأ حرية التعبير عن الرأي وتجرد الباحث من الدرجة العلمية التي استحقها عن جدارة. كما أحيل المفكر الفرنسي المسلم روجيه جارودي إلى إحدى المحاكم الفرنسية بتهمة معاداة السامية، لأنه ألّف كتابا تناول فيه بالنقد العلمي معظم الادعاءات والمزاعم اليهودية التي استندت إليها الحركة الصهيونية في إقامة دولة إسرائيل، ومنها الادعاء أن عدد ضحايا اليهود في محارق النازية بلغ ستة ملايين، وأثبت أن هذا الرقم مبالغ فيه، وأنه استخدم لابتزاز التعويضات والمساعدات من الدول الأوروبية، وقد أصدرت المحكمة الفرنسية حكما يقضي بمعاقبة المفكر جارودي بجزاءات مالية وجزاءات سالبة للحرية "الحبس". وأصبح هذا الحكم سيفا مسلطا على رقبة كل من يحاول أن يوجه نقدا للحركة الصهيونية والسياسة الإسرائيلية.
2 – في سنة 2003، اضطرت الإمارات العربية المتحدة إلى إغلاق مركز زايد الثقافي بسبب الضغوط الأمريكية الشديدة واتهامها المركز بأنه يروج للفكر المعادي للولايات المتحدة الأمريكية والمعادي أيضا للسامية. وكان أكثر ما أخذ على المركز أنه استضاف الكاتب الفرنسي تيري ميسون، الذي شكك في أحد كتبه في أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 واعتبرها أكذوبة. وهكذا خسر العالم العربي أحد المراكز البحثية المرموقة بسبب عدم استطاعة الغرب تحمل الرأي المخالف. علما أنه يوجد في الولايات المتحدة العديد من مراكز الأبحاث المتخصصة في نشر (الدراسات) التي لا تتسم بالموضوعية وتنطوي على الإساءة إلى العرب والمسلمين وبث الكراهية ضدهم.
3 – أقامت وسائل الإعلام البريطانية والغربية الدنيا ولم نقعدها حين نشر الدكتور غازي القصيبي، عندما كان سفيرا للسعودية في بريطانيا، قصيدته التي أشاد فيها بالفدائية الفلسطينية الشهيدة وفاء إدريس، واعتبرتها وسائل الإعلام الغربية قصيدة تحرض على الأعمال الانتحارية ضد إسرائيل، وتجاهل الإعلام الغربي أن هذه القصيدة كانت ردة فعل مواطن عربي لواقع احتلال إسرائيل الأراضي العربية وممارستها أبشع أنواع القمع والإرهاب وجرائم الحرب ضد الشعب الفلسطيني.
4 – في سنة 2004 صرح ألان مينارغ مدير الأخبار في إذاعة فرنسا الدولية، بأن إسرائيل دولة عنصرية، فشنت المنظمات الصهيونية ضده حملة شعواء أدت إلى استقالته من منصبه ولم يسعفه مبدأ حرية الرأي والتعبير في مواجهة تلك الحملة.
5 – في 18/11/2005 اعتقلت السلطات النمساوية المؤرخ البريطاني الشهير ديفيد إيرفينج بتهمة معاداة السامية، لأنه نفى وجود أفران الغاز والمحرقة النازية لليهود، ولم ينقذه مبدأ حرية الرأي والتعبير من الاعتقال.
6 – عندما نشر الكاتب البريطاني، الهندي الأصل، سلمان رشدي روايته المسماة "آيات شيطانية"، والتي تتضمن إهانة بالغة للإسلام والمسلمين، وصدرت في إيران فتوى بهدر دم المؤلف المذكور، ثارت بعض الدول الأوروبية وطالبت حكومة إيران بإلغاء هذه الفتوى بحجة حرية الرأي والتعبير، بينما داست هذه الدول على حرية الرأي والتعبير، عندما أصدرت قوانين منحت بموجبها اليهود والحركة الصهيونية الحصانة التاريخية المطلقة التي تحظر مناقشة مزاعمها وأساطيرها، وتعاقب كل من يخالف هذا الحظر بالحبس والغرامة المالية.
7 – قامت حكومة النمسا بتقديم اعتذار علني وصريح عقب رسم بعض الفنانين لوحة تضم صورا شاذة لكل من ملكة بريطانيا إليزابيث والرئيس الأمريكي جورج بوش والرئيس الفرنسي جاك شيراك. ولم يقل أحد إنه ما كان ينبغي على حكومة النمسا الاعتذار استنادا إلى حرية التعبير.
هذا غيض من فيض لمعايير الغرب المزدوجة. ومن الغرائب التي قيلت بشأن هذه الرسوم الشنيعة، تصريح دان فرايد مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون أوروبا، حيث قال إن رد فعل الولايات المتحدة وأوروبا تجاه الجدل بشأن هذه الرسوم ينبغي أن يكون بتكثيف الجهود من أجل الإصلاح في الشرق الأوسط. وكأن المسؤول الأمريكي يريد أن يقول إنه إذا استطاعت أمريكا وأوروبا "إصلاح" الشرق الأوسط وفقا للمفاهيم الغربية، فإن العرب والمسلمين لن ينتفضوا غضبا إذا ما مست مقدساتهم وعقيدتهم بأي إساءة أو إهانة، لأن الإصلاح الغربي سيجعلهم يتقبلون أي إهانة بقبول (ديمقراطي) حسن. ولو راجع هذا المسؤول كتب التاريخ لوجد أن العدوان على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أيا كان نوعه ومهما كان عاتيا، لا يميتها وإنما يبعث فيها روح المقاومة ويجدد قدرتها على التصدي للمعتدين، وما ردة الفعل لدى المسلمين حيال إساءة الجريدة الدنماركية إلى رسولهم الكريم إلا دليل واضح على ذلك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي