فك شفرة المعرفة
يزمع منتدى الحوار الوطني القادم اتخاذ قضية التعليم محورا للقائه السادس، تحت عنوان "التعليم: الواقع وسبل التطوير". وهذا اختيار موفق، ذلك أن قضية التعليم بالنسبة إلى مجتمعنا هي قضية مستقبل ومسألة مصير.
لا أعرف والله بأي لغة وبأي وسيلة يمكن للمرء أن يوضح الأهمية البالغة لهذه المسألة في حياتنا. لقد أوشك العقد الأول من القرن الميلادي الحالي أن ينصرم، كما توشك أربعة عقود وثماني خطط تنموية أن تولي، دون أن تتمكن مؤسساتنا التعليمية من تزويد المجتمع بجيل مؤهل وقادر على المنافسة والإنتاج والابتكار. وعلى الرغم من أن التعليم يحظى بمخصصات كبيرة في ميزانية الدولة، إلا أننا لا نرى نتاجا ملموسا. إن المسألة ليست مسألة أموال فقط، على أهميتها، بل إن الأمر يقتضي تبني خطة تعليمية وطنية استراتيجية ذات برامج وأهداف وخطوات محددة. لو استطاع هذا المنتدى أن يأخذ على عاتقة إطلاق شرارة بدء العمل على التخطيط لمثل هذه الاستراتيجية، بحيث تتبناها الجهات الرسمية المسؤولة عن التعليم في بلادنا، فإنه يكون قد قدم خدمة تخلد في تاريخ بلادنا.
ماذا نتعلم؟ وما الذي يجب علينا تعلمه؟
يرى كثير من المراقبين أن الصناعات المربحة والرائدة في عصرنا، تنحصر تقريبا في سبعة مجالات: الإليكترونيات الدقيقة، التكنولوجيا الحيوية، صناعة المواد الجديدة، الاتصالات السلكية واللاسلكية، الطيران المدني، الإنسان الآلي والآلات الصناعية، الحاسبات الآلية وبرامج التشغيل. والناظر يرى أن هذه الصناعات تعتمد في استحواذها على "العقل والمعرفة" وليس على توافر الموارد الطبيعية. ليس هذا فقط، بل إن النجاح اليوم لن يكون من نصيب من يبتكر منتجات جديدة بقدر ما سيكون لمن يملك ناصية المنهج التكنولوجي أو القدرة على تطوير عمليات التكنولوجيا.
إن الاستثمار في التعليم يقتضي أن تكون لدينا رؤية واضحة لنوعية التعليم المناسب لعالمنا المعاصر. ومن يتأمل صناعات المنافسة العالمية السبع المذكورة أعلاه يرى كم نحن بحاجة إلى مؤسسات تعليمية تقنية راقية تعمل وفق خطة معدة سلفا، تستطيع أن تستقطب أفضل خريجي الثانوية العامة من أبنائنا، بحيث تركز برامجها التعليمية على مواد التكنولوجيا الحديثة، وأن تتم الدراسة فيها باللغة العالمية، وأن تدار بكفاءة عالية وبشفافية وبصورة مستقلة عن الروتين الحكومي، من خلال اتفاقيات تعاون مع أرقى المعاهد والجامعات التكنولوجية العالمية، وأن تستقطب لها الكفاءات العالية جدا، محلية كانت أم أجنبية.
في لقاء مطول أجرته إحدى القنوات الفضائية أخيراً مع الدكتور فاروق الباز (العالم الجيولوجي الشهير بوكالة الفضاء الأمريكية) أكد الرجل أن السبيل الوحيد أمام الدول العربية للانعتاق من رقبة التخلف والانطلاق نحو آفاق التقدم واللحاق بركب الحضارة العالمي هو التركيز على اكتساب المعرفة العلمية. هذا في الأجل الطويل، أما في الأجل القصير فإنه يؤمن أن استغلال الموارد الراهنة وتوجيهها نحو إقامة مجمعات اقتصادية جديدة كلية وخارج نطاق التجمعات السكانية الحالية هو سبيل تحقيق معدل نمو اقتصادي مرتفع يسمح بتوليد فرصة عمل إضافية متجددة أمام الأعداد المتزايدة من السكان، ويضيف من ناحية أخرى قيما اقتصادية للدخل الوطني، تسمح بإعادة تغذية هذه المشاريع وضمان استمرار بقائها.
لقد بات واضحا اليوم لدى ذوي العقول الراجحة أن العنصر الحاسم لتحقيق نقلة نوعية حضارية في مسيرة التنمية الاقتصادية الاجتماعية لأية أمة، إنما يكمن في صناعة المعرفة. هذا ما جرى في الغرب منذ عصر النهضة، ويجري الآن في الدول الناهضة في الشرق.
إننا بحاجة إلى مشروع تعليمي وطني جبار يتبنى ما تبنته كوريا الجنوبية مثلا والمسمىBrain Korea 21. وليس هناك أفضل من هذا الوقت الذي تفيض فيه موارد النفط على خزينتنا العامة، لتبني مشروع استراتيجي تعليمي كهذا. نحتاج فقط إلى قناعة واضحة، وإرادة صادقة، وعزيمة ماضية. ولا يتوهم متوهمٌ أن دون ذلك خرط القتاد! يكفي أن نطلع على التاريخ الاقتصادي لكوريا الجنوبية، ففي الخمسينيات الميلادية من القرن العشرين خرجت كوريا محطمة من حربها ضد الاستعمار باقتصاد متهالك وإمكانات متواضعة، وموارد محدودة، وخبرات معدومة. كان متوسط الدخل الفردي فيها لا يزيد على مثيله في دولة مثل غانا، أي نحو 230 دولارا سنويا. واليوم تتبوأ كوريا المرتبة الـ 13 على مستوى العالم من حيث حجم تجارتها الخارجية، والسر يكمن في التعليم والتدريب.
كان للاستثمار في رأس المال البشرى دور كبير في النمو السريع في الاقتصاديات الآسيوية ذات الأداء المرتفع. ركز التعليم الأساسي في هذه الدول على اكتساب المهارات الأكاديمية العامة. في حين ركز التعليم في المرحلة التالية على اكتساب المهارات المهنية، بل إن بعض هذه الدول لم تتردد في استيراد خدمات تعليمية واسعة النطاق بشكل كبير، خاصة في مناهج التقنية العالية. كما كان لبعثاتها الدراسية إلى الدول الغربية دور مهم في اكتساب المعرفة عالية المستوى. واستطاعت هذه الدول، من خلال اكتساب المعرفة التقنية العالية، فك شفرة المعرفة في براءات الاختراع والتراخيص، وكذلك شفرة المعدات الإنتاجية المتخصصة غير المعدة للتبادل التجاري. كما قامت بعض هذه الدول مثل تايوان وكوريا بتخصيص جزء من مواردها نحو البحوث العلمية التي كانت تهدف إلى تحسين الصادرات وتخفيض تكاليف الإنتاج.
وفي الوقت نفسه، فإنهم لم يغفلوا التدريب في موقع العمل، الذي كان أغلبه مدعوما من قبل الحكومة، وهو ما ساعد بدوره على استيعاب التقنية على نحو سريع.
خلال القرن التاسع عشر تمكنت ألمانيا من خلال نظام التعلم من المعلم مباشرة، من اختصار 200 سنة إلى خمس سنوات. وخلال القرن العشرين تمكنت أمريكا من اختصار الزمن من خمس سنوات إلى ستة أشهر وأحيانا إلى تسعين يوما، كل ذلك من خلال التدريب.
و قبل 40 سنة كانت كوريا تفتقر إلى المهارات، لأن اليابان منعت عن جيرانها اكتساب مثل هذه المهارات لمدة 50 سنة. والآن تستطيع كوريا تقريبا تصنيع أي منتج تماما كما تفعل الدول المتقدمة صناعيا، بل يمكن القول إن عددا من دول آسيا الناهضة مثل الصين وكوريا والهند تمكنت من منافسة الدول الصناعية في بعض الأنشطة الاقتصادية بسبب قدرتها على الابتكار وتحسين الإنتاجية. وكل ذلك كان بفضل التعليم والتدريب. ألا يستحق منا الاستثمار في العقول أولوية في الرعاية والاهتمام والدعم المادي، وتقديمه على النفقات الأخرى الاستهلاكية والترفيهية التي نغدق عليها بكرم؟
إن المهمة التي يجب علينا إدراكها تكمن في النظر إلى المعرفة المستخدمة في العمل البشري كمصدر حقيقي ودائم للثروة. وأن الاعتماد على العوائد الريعية المتحققة من مجرد استخراج الموارد الطبيعية لن يقيم لنا قائمة، هذا إن لم تقع لنا نازلة.
لم يعد التحدي ماذا يجب علينا أن نفعل، فقد بات ذلك مفهوما، بل التحدي الحقيقي هو كيف نجبر أنفسنا على عمل ما نعلم أننا بحاجة إلى عمله!! والإنجاز سيبدأ حين نتوقف عن مجرد الكلام.
- أستاذ الاقتصاد ـ جامعة الملك عبد العزيز
[email protected]