هل ثمة مخرج إنساني أو إداري أو "اقتصادي" يوقف "نفوق" المعلمات؟
في البدء عفوا لعبارة "نفوق" التي تأتي في العنوان, وهي لا تليق بالبشر, لكن بما أن رحيل المعلمات اللاتي سنتعرض لهن في هذا المقام بات جماعيا في ظروف ليست إنسانية فإن الموت هنا أقرب إلى النفوق.
في اليوم الأول من النصف الدراسي الثاني وفي جنوب الوطن, قضت ست معلمات في طريق رحلتهن (ربما اليومية أو الأسبوعية) نحو مدرستهن وفي أحضان بعضهن فلذات أكبادهن. وهو حادث يأتي استكمالا للمسلسل الذي تتكرر مشاهده منذ عدة أعوام وتحديدا منذ بات لدينا اكتفاء أو شبه اكتفاء في المعلمات السعوديات.
وهنا ربما يسأل البعض: ما العلاقة بين الاكتفاء وهذا المسلسل؟ فنقول إن المعلمات اللاتي كن يأتي بهن من الخارج لا يمانعن بل يصررن على السكنى في القرية أو الهجرة التي تقع فيها المدرسة ولا بأس في ذلك باعتبار أن المعلمة تأتي من خارج البلاد ومعها زوجها فحسب (أو محرم وهو لا يعمل في الغالب ويبحث عن فرصة عمل تتفق مع موقع عمل الزوجة) وليس لديها بعد اجتماعي يستدعي غير ذلك, فضلا عن أن البقاء في القرية أو الهجرة أيا كان موقعها يعطي منافع اقتصادية من ناحية تدني الإيجار السكني والنقل والمصروفات.
لكن هذا الجانب يصعب تحقيقه بيسر وسهولة مع السعوديات لأسباب اجتماعية واقتصادية, أولا أن بقاء المعلمة في القرية يترتب عليه عدة أمور فإما أن تكون متزوجة ولن يقبل الزوج بالبقاء معها باعتبار أن المكان يتعارض مع عمله, وإما أن تكون غير متزوجة ووالدها ووالدتها يرعيان غيرها من الأبناء ولا يستطيعان تغيير الموقع الذي يترتب عليه خلل في رعاية الأبناء (الدراسة والمأكل والمشرب والسكن), ووجود حالات مغايرة تمكنت من الهجرة من المدن أو القرى الحضرية إلى الهجر لا يعني بالقطع أن هذا الأمر قابل للتطبيق في كل الحالات أو أنه يسير يسهل تنفيذه على بقية أفراد المجتمع.
هذه العوامل مجتمعة (مع تزايد عدد الخريجات من السعوديات) أفضت إلى وجود رحلات يومية يشهدها معظم مدننا كل صباح. وهنا أشير إلى حالات تقطع يوميا ذهابا وإيابا نحو 800 كيلو متر ولا أستبعد أن يكون أحدكم أو أحدنا في محيط معرفته من تقطع أكثر من ذلك.
هذه الرحلات بما أنها تأتي عبر عقود شخصية بين المعلمات والسائقين دون إشراف أو رقابة (إلا رقابة المحرم) من الجهات المعنية, فإن صلاحية السيارة تخضع في الغالب لتقدير السائق وليس المستفيد الثاني, هذه واحدة, الثانية أن السيارات (في الغالب أيضا) غير مهيأة من ناحية السلامة والراحة للنقل الجماعي اليومي, والثالثة أن البعد المكاني والالتزام اليومي بالوصول إلى الموقع في ساعة معينة يستدعيان من السائق تجاوز السرعات القانونية والأنظمة الأمنية, فماذا سيكون الحال عندما تتحد هذه العوامل بعضها مع بعض؟ بالقطع فإن احتمالات الحادث ترتفع بمعدلات كبيرة كلما اختل عنصر من عناصر السلامة في السيارة أو السائق أو الطريق.
هذا الوضع بالمقاييس الإنسانية والإدارية من غير اللائق أن يبقى ويأخذ حالة الديمومة, لأنه وضع خطأ ومن ثم فمعالجة الخطأ واجب تقع مسؤوليته على الجهة المعنية بالتعليم التي يُفترض أن تسن أنظمة أو تقترح حلولا وترفعها إلى السلطات العليا وتلح في طلبها حتى تستصدر قرارات تحمي بها هذه الفئة من المجتمع وترفع الحرج الاجتماعي ـ أي الجهة المنوط بها التعليم ـ عن نفسها.
وفي حالة عدم الوصول إلى حلول جذرية فمن المؤكد أن "النفوق" على الطرق السريعة باق وسيستمر, لأن المعطيات كافة تشير إلى ذلك. فمثلا يقدر عدد الدارسات حاليا في قنوات التعليم كافة بنحو 2.5 مليون طالبة, ومن المعلوم أن 80 في المائة من اللاتي سيكملن دراستهن سيتجهن إلى التدريس, لعدة أسباب لا يحتمل المقام ذكرها, وهذا يعني أن الجيل المقبل من الفتيات سيجد نفسه في الدائرة ذاتها من الهجرة اليومية بحثا عن الوظيفة أو صرف النظر عنها بالبقاء في البيوت, وفي هذه الحالة تكون الحكومة قد صرفت أموالا ليست في مكانها الصحيح, أي تلك الأموال التي يستهلكها الطالب من الدولة منذ دخوله المدرسة المرحلة الأولى الابتدائية حتى تخرجه في شكل توفير المعلمين والمباني والكتب, فضلا عن المكافآت.
إن القضية تتعلق أولا بوزارة التربية والتعليم, وليس هناك شك في أن بحثها عن الحل هو البداية الصحيحة للمعالجة, أما الارتهان لمسألة الوقت (أو التقاعد المبكر) فحلول لا تخدم الدولة لا اقتصاديا ولا اجتماعيا, بل إنها على العكس تضع أعباء إضافية اقتصادية واجتماعية. وللحديث بقية عن بعض الحلول المقترحة.