ثقافة تخصيص القطاع العام

في عالمنا العربي ينقصنا الكثير من الثقافات لنعيش بإيقاع متناغم مع سيمفونية الحياة, ولكن أشد ما نحتاج إليه الآن هو ثقافة الإتقان. ما يقلق فعلا هو كيف أن ذكر إتقان العمل ورد في القرآن الكريم منذ أكثر من 14 قرنا, وما زلنا نناشد بعضنا البعض بالاهتمام بإتقان العمل, وجودة المخرجات.. إلخ؟ أعتقد أنه بأسلوب الحوار ستكون هناك بارقة أمل على الأقل على مستوى المحاورة والزمن بعد ذلك كفيل بالتغيير التدريجي بإذن الله. في الحديث عن التخصيص يبدو لي أننا نسعى إليه بدون تثقيف أو توعية جيدة لأفراد المجتمع كافة من القوى العاملة وعلى الأخص العاملين في القطاع العام. حيث يلاحظ أن القطاع العام سيتعثر كثيرا إذا استمرت الأوضاع ضبابية وأسندت المهمة إلى العارفين وليس المتخصصين في التخصيص واقتصادياته.
وفي هذا السياق لابد من التساؤل والإجابة بكل شفافية لتحديد أطر الطرح, فأول ما يتبادر إلى الذهن هو: هل نحن نعمل للتخصيص ومن أجله فعلاً أم هي أُهزوجة نرددها لأننا كنا سنوقع, ثم تمكنا من توقيع اتفاقية التجارة العالمية؟. من المفترض ألا تكون الإجابة عن هذا السؤال سردا وصفياً, ولكن كمية نوعية ورقمية, وعدا ذلك فهي تسويف جديد لا يترجم أي رغبة تدعو له. نعلم أن التخصيص الآن سيكون في القطاعات الأكثر جاهزية, ولكن ماذا عن الأكثر عوائد وربحية؟ ثم ما هو الهدف أصلا؟.. رغم الاختلاف في ظروف وأساليب التخصيص إلا أن هناك ثوابت لا يختلف فيها اثنان هي: الاستعداد البشري كما وكيفا, والجاهزية النظامية والقانونية للتعاملات, وقابلية المنتج لضخ عوائد وأرباح مشجعة, فهل تعاملنا مع هذه الثوابت بواقعية؟ من ناحية أخرى, من هو المستهدف للتخصيص, وهل تتوافر القناعة الكافية لدينا بأنه سيقتنع؟
إننا في الدول العربية كلها باعتقاداتنا نسبح في مساحات فكرية بأحلام عذرية ونحسب أننا نحقق بالكلام والمهاترات إنجازات عصرية. هل وعينا للدرس الهندي حينما توقعت الهند الحصول على 100 مليار روبية من بيع أصول الدولة للتخصيص في عام واحد ولم تتحصل إلا على نحو 26 في المائة منه, وكانت قد وضعت تقديرا للانتهاء بما يقارب 500 مليار روبية مع نهاية برنامج التخصيص ولم تحصد سوى 25 في المائة منه مع نهاية البرنامج المقر. وبعد طول مناقشات ومناورات مضنية انتهت بوجوب تعديل المسار وإعادة الثقة بين القطاعين العام والخاص الأمر الذي جعلها تتقدم بقوة مشكلة وزنا اقتصاديا لا يمكن الاستهانة به في العالم. من جانب آخر ففي بداية كانون الأول (ديسمبر) الماضي وخلال إقامة منتدى الرياض الاقتصادي أشير إلى أن 57 في المائة من المستثمرين في القطاع الخاص بالمملكة محجمون عن التعامل مع القطاع العام وتخصيصه, لعدم وجود الشفافية في القوانين والأنظمة إضافة إلى التكلفة التشغيلية التي أصبحت عالية بعد زيادة معدل الجريمة, والحاجة إلى تجهيزات أمنية عالية للحفاظ على الموارد, كما أن انتشار الفساد المالي يحتاج إلى وقفة مشتركة صادقة للتخلص منه. أما بالنسبة للمرأة فالمخاوف تحدق بها من كل صوب, فالمقبل من الأعمال للتخصيص بشكل عام ويمكن للمرأة أن تسهم فيه لا يعدو كونه ملابس جاهزة, وخياطات وبعض الكماليات وآحادا محدودة من المشاريع الصغيرة, حيث إنها ستواجه عاصفة كبيرة في إدارتها لأي مرفق فكيف بامتلاك رأس المال والتحكم في خطوط الإنتاج وتسويق المنتجات مضافا إلى ذلك تكاليف النقل والتنقل وتوظيف الوكلاء للمراجعات والتخليص التي ستكون عالية ولا يتحملها الرجل في المقابل. فهل يمكن تفادي كل هذه المشاكل خلال عام واحد من الآن؟
للآسف المتتبع لبداية مصطلح "القرية الكونية" سيجد أنها كانت حلما بذرت بذرته في الستينيات أو على الأكثر بداية السبعينيات في أوروبا وها هو الآن واقع, بينما نحن مازلنا نفكر في الحكومة الإلكترونية وأتمتة الأعمال والإجراءات وتخصيص أجهزة ترهلت قبل أن تكون مرت بمرحلة الشباب أصلا. لذلك قد يطرح المستثمر سؤالا مثل: هل البنى التحتية تجهيزا وتشريعا جاهزة وسليمة ومواكبة للمستجدات لاستمرار العطاء في تنامٍ مطرد على المدى البعيد؟ لإجابة السؤال لا بد أن نعلم أن مفهوم البنية التحتية بدأ يتغير في مكوناته على مستوى العالم. فمثلا بدأ العالم الرقمي باستخدام تكنولوجيا الربط الشبكي لتقنية الاتصالات عبر الكابلات الأرضية التي مرت بمراحل تطويرية عديدة إلى أن وصلت إلى استخدام كابلات قوى الكهرباء للغرض نفسه والتي تطورت الآن باستخدام الأقمار الصناعية الفضائية عوضا عن الأرض. وبالتالي لم تعد هناك حاجة (إلى حد كبير) لمد الكابلات للاتصالات. ومثل آخر هو بداية توفير أجهزة الحاسب الآلي المكتبية في حين أنها أصبحت في متناول اليد تستخدم في أي مكان سواء عبر جهاز الجوال أو الحاسب اليدوي المحمول, والذي سيجعل الحاسب الآلي المكتبي قطعة أخرى من أثاث المكتب الجاهز لتخزينه وتكهينه؟ وللدلالة على ذلك إمكانية المريض في دول عدة بالتواصل مع طبيبه أينما كان في العالم عبر جهاز المؤشرات الحيوية الإلكتروني المحمول الذي يمكِنه من متابعة والتحكم في حالة المريض وكأنه معه ويلامسه, ومن ثم يرشده للخطوات المطلوب اتباعها لكي يتمم علاجه بنفسه. الأمر الذي بدأ يقلل من أهمية توافر أسرة كشف وأدوات وتجهيزات للكشف السريري. ناهيك عن التواصل عبر تقنية Telemedicine لينجز الطبيب (الروبوت) عملية جراحية متناهية التعقيد عن بعد. فهل نحن مواكبون أو متأهبون لهذه القفزات الهائلة من التطوير؟
من الأمور المهمة الأخرى, عدم وجود المحاكم المتخصصة وذات الخبرة الطويلة لفض النزاعات التجارية المالية والإلكترونية المعقدة, إضافة إلى تفشي البيروقراطية والروتين المُمل وأحيانا كثرة تدخل الأهواء الشخصية في التعاملات بشكل عام يجعل المستثمر يتململ متخوفا من انهيار في أي لحظة. فكيف ستبدأ القطاعات تخصيصها في ظل هذه الظروف؟ وهل لدينا الأجهزة الاستثمارية المثقفة في كل وزارة ليتم هذا المشروع حسب الأصول الاقتصادية والمالية العلمية؟
أما من ناحية المدة فآخر الأسئلة الملحة هو: هل هناك جدول زمني لتسليم البرامج والأجهزة الجاهزة للتخصيص, وهل هناك نية للإبقاء على حصة للدولة في بعض القطاعات؟ لقد تناقلت الأوساط الاقتصادية في بداية عام 1422هـ في المملكة تصريحا أو خبرا مفاده أن بداية عام 1427هـ سنشهد استعدادا كاملا للتجارة الإلكترونية في منطقة الخليج وشبه كاملة بين الدول العربية أو دول الشرق الأوسط. بالطبع إلى الآن لم يتحقق 50 في المائة مما تم توقعه لأن تحقيق التخصيص والنجاح فيه ومن ثم الشروع في التجارة الإلكترونية يحتاج إلى جيل قادر على التعامل مع معطيات الساعة, ولا أعتقد أننا بنيناه أو حتى بدأنا بناءه بالمنهجية السليمة. لقد تفننا في إصدار القرارات الاجتهادية المتعجلة المصنوعة كل يوم, وتوارى البعض خلف مصطلح "الخصوصية" فَلاكَه بلسانه, ولم يرد له هضماً, فكانت النتيجة ألا نصل لما نتوقعه قبل عام 2010م وقد يمتد لعشر سنوات أخرى بعدها لأن التصور كان قاصرا عن حساب أوزان المعايير بدقة. أما النصف الأخير من السؤال فستتضح الرؤى فيه إذا ما وضعت برامج التخصيص في طريقها الصحيح بالأسلوب المثالي وبمتابعة لصيقة من جهة الاختصاص.
بقي أن نعرج على موضوع السيولة في الأسواق المالية التي أشار بعض المحللين لها بأنه يمكن الإفادة منها. من وجهة نظري أرى - متفقا مع من سبقني - أن مع تمتع المملكة الآن بوجود سيولة نقدية لم تشهدها من قبل, وعدد المستثمرين ارتفع من 25 ألف مستثمر إلى 250 ألف مستثمر وقد يكون أكثر بكثير, إلا أن كل هذه السيولة لا تعني للتخصيص أكثر من أرقام في البنوك, فهي أوراق مالية تنامت خلال السنوات الخمس الأخيرة عبر تداول الأسهم, وأوجدت فئة من المستثمرين بعيدين كل البعد عن معنى الاستثمار الحقيقي, حيث فضلوا تداول الأسهم لاستسهال الربح عن المخاطرة بأموالهم في تأسيس الشركات والمؤسسات والمصانع الإنتاجية كتجارة حقيقية مربحة. وبالتالي فلا يمكن الاستفادة منها إذا لم توظف فعليا لنماء شامل. لذلك فالتوجه إلى التخصيص في حد ذاته ليس إنجازا, ولكن العزيمة الصادقة والعمل الجماعي الجاد والتكامل في الأداء والأخذ بالأسباب حسب الأصول والمعرفة مع ثقافة إتقان العمل ستمكن من تحقيق الإنجاز وبلوغ الهدف المنشود بإذن الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي