عودة الابتعاث
شكل التوجه نحو ابتعاث آلاف من خريجي المدارس الثانوية والجامعات السعودية للدراسة في جامعات أجنبية أحد أبرز ملامح العام الهجري الماضي، حيث عاد الابتعاث وعادت معه الذاكرة إلى مرحلة الابتعاث الأولى في السبعينيات الميلادية بمحاسنها ومساوئها.
وكما يبدو فإن هذا التوجه أتى ضرورة لفك الاختناق الحاصل في قطاع التعليم وسوق العمل في ظل تناقص القدرة الاستيعابية للجامعات والمعاهد السعودية وارتفاع معدلات البطالة، إضافة إلى أبعاده الثقافية والسياسية الإيجابية. وقد أتت فرص الابتعاث مواتية لتقي جزءًا من الموارد البشرية المواطنة لهيب الركود الإنتاجي، حيث إن المورد البشري إذا لم يتم البذل على تطويره ومن ثم العمل على استغلاله الاستغلال الأمثل فإن "معدل إهلاكه" ربما يكون أكثر تسارعاً من معدل إهلاك الآلة (إذا جازت المقارنة)، هذا إذا لم يكن عرضة للمهلكات الأخلاقية والاجتماعية! وهذا منطق عقلاني يقودنا إلى أهمية وحساسية التخطيط للاستثمار في الموارد البشرية، والتبعات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن تدني مستوى هذا التخطيط.
وحتى يدرك القارئ ما نحن بصدد الحديث عنه، دعونا نقف أولاً على سرد لإجراءات التقدم للحصول على البعثة، والإجراءات اللاحقة. حيث يتقدم الطالب ابتداءً بطلب الابتعاث في أحد التخصصات المتاحة، ويليه أن تقوم الوزارة بدراسة الطلب تمهيداً للموافقة أو الرفض. وفي الخطوة التالية يُمنح الطالب الضمان المالي اللازم لمساعدته في الحصول على قبول في إحدى الجامعات المعتمدة من الوزارة. بعد ذلك، يبدأ الطالب بالبحث "السريع" عن الجامعة "الملائمة" حتى "لا تطير" البعثة. فإما أن يكون محظوظاً بما فيه الكفاية ويكون بالقرب منه الشخص الملائم الذي يستطيع مساعدته في البحث عن الجامعة المناسبة، وتهيئته نفسياً وربما علمياً لمثل هذا النقلة النوعية في حياته.. أو قد يكون أقل حظاً (وهذا حال الأغلبية) فيبدأ طرق أبواب "المتعالمين" في مكاتب السفر والسياحة لعلهم يساعدونه في الحصول على قبول يخرجه من عنق الزجاجة. وعندما يحظى الطالب بقبول من إحدى الجامعات، ويوفق في الحصول على تأشيرة الدخول إلى بلد الدراسة، يعود إلى وزارة التعليم العالي ليستكمل ما تبقى من إجراءات إدارية تمهيداً لحزم أمتعته إلى عالمه الجديد الذي ربما لا يعلم منه إلا اسم الجامعة أو المدينة، هذا إذا وفق في تهجئتهما!
للأمانة، لقد نجحت وزارة التعليم العالي من خلال هذا التسلسل الإجرائي في التقليل من أعباء البيروقراطية بدرجة ملحوظة، كما أحسنت في تسخير التقنية بشكل انسيابي ولائق في إنهاء الإجراءات، إذا علمنا أن هذا الأمر تم في وقت قياسي نسبياً وبالرغم مما تعانيه الوزارة من نقص في الموارد، ولكن كان بالإمكان أفضل مما كان. حيث يجد المتتبع لتلك الإجراءات أن ثمة حلقة مفقودة تتمثل في "تأهيل المبتعث" لاختيار التخصص الملائم والحصول على قبول الجامعة، ومن ثم تهيئته قبل شد الرحال. أما كان من المفترض أن يعي الطالب كيفية اختيار التخصص وآلية المراسلة وأن يرسم في مخيلته رحلة الانتقال إلى الدراسة بكل نواحيها، كالإيمان بالهدف من الدراسة، والتوقعات المستقبلية بعد التخرج، مروراً بجميع الإجراءات والمعلومات الدقيقة التي يحتاج إلى معرفتها حتى يصل إلى بلد الدراسة، وتوعيته بحال تلك البلد وقوانينها؟ حقيقةً، لقد لمست شخصياً التيه في عيون الكثير من المبتعثين الصغار، فمنهم من يوفق في ترجمتها إلى أسئلة تساعده على استيعاب الأمر، ومنهم من هو ساذج بدرجة مخيفة... وقد ذكر لي أحدهم أن الشخص الذي يساعده في عملية مراسلة الجامعات في أحد مكاتب "المراسلات" نصحه بعدم التفكير في مراسلة جامعة نبراسكا، والسبب "يقولون الديرة حارة"!
وفي حال حصول الطالب على القبول في الجامعة فعليه أن يسابق الزمن للخوض في معمعة الفوضى العارمة التي تعاني منها السفارة الأمريكية وقنصلياتها في المملكة في التعامل مع الزخم الكبير لطلبات الحصول على التأشيرات. حيث يقوم بالاتصال بالسفارة للحصول على موعد للمقابلة الشخصية تمهيداً لمنحه (أو عدم منحه) تأشيرة الدراسة. وهنا تكمن المعاناة، حيث يشتكي الكثير من الطلاب وأولياء الأمور من عدم استجابة السفارة لاتصالاتهم. وكأن أسطورة الإدارة الأمريكية عجزت عن وضع آلية كفؤة قادرة على التعامل مع هذه الطلبات التي لا تتجاوز الآلاف. فقد أصبح مجرد الحصول على موعد للمقابلة الشخصية (مجرد موعد فقط!) أكثر تعقيداً من الحصول على البعثة نفسها أو القبول في جامعة مرموقة. حقيقة، لا نعلم أين تكمن المشكلة في إعطاء الطالب موعداً ولو بعد حين! أما أن يلازم الهاتف ليل نهار لمدة قد تتجاوز عدة شهور بغرض الحصول على ذلك الموعد، فهذا مثار ريبة واستغراب!
ختاماً، لا بد من التجهيز الجيد للبقية الباقية من هؤلاء المبتعثين حتى لا يعود "بعضهم" أو "أي منهم" بخفي حنين أو بجرائم لا تحمد عقباها فيثقلون أنفسهم وأهليهم والوطن معهم بهموم أو فشل ما كان يجب أن يتحملوه نتيجة خلل "بسيط" في التخطيط! وليتنا منحنا التخطيط فسحة أكبر حتى لا نكون كمن يجتر أخطاء الماضي. كما نأمل من السفارة الأمريكية أن تتعامل بمهنية مع طلبات التأشيرات، فكما أنها تملك الحق في قبول أو رفض المتقدم، فالطالب يملك الحق في الحصول على إجابة سريعة سواءً كانت بالسلب أو بالإيجاب، أما أن يبقى مغلوباً على أمره وحائراً لا يعلم أهو مبتعث أم لا؟ ومتى سيحصل على الموعد؟ فهذا عبث بآمال وقلوب آلاف من شباب الوطن، ونتمنى ألا تقف وزارة الخارجية، ووزارة التعليم العالي موقف المتفرج.
رابط
قيل: فأثَّرتْ تلك في الأحشاءِ فاشتعلتْ ومعظَمُ النار من مُستصغَر الشـررِ
وقيل: "الفشل في التخطيط، تخطيط للفشل"
نجحت وزارة التعليم العالي في التقليل من أعباء البيروقراطية، كما أحسنت في تسخير التقنية بشكل انسيابي ولائق في إنهاء الإجراءات، ولكن كان بالإمكان أفضل مما كان!