ولقد مررت على الديار بربوة..!
تزخر بلادنا، بفضل من الله عز وجل، بإمكانات مادية كبيرة، فثرواتها تفوق ثروات عدة دول مجتمعة تحيط بنا. كما أنها لا تعدم الرجال الكبار في إخلاصهم وكفاءتهم ومؤهلاتهم. نحن بلد تتزايد أعداد سكانه بمعدل متسارع، وتتزايد احتياجاته وتتعدد مشاكله. ومن هنا يجب أن ترقى طريقة إدارتنا لحياتنا لتناسب التحديات التي يواجهها مجتمعنا وتناسب المستوى الذي بلغناه من حيث الإمكانات المادية والخبرات البشرية.
إن تأجيل التصدي للمشاكل أو حتى التصدي لها بحلول مؤقتة، قد يزيد من عمق وصعوبة هذه المشاكل مستقبلا. كما أن تأخير تطوير مؤسساتنا وطرق إدارة معاشنا، من شأنه أن يرهق الناس ويعطل مصالحهم، ويحيّد إمكانات المجتمع ويقلل من إمكانية الاستفادة من موارده وطاقاته، ويضّيع علينا فرصا وأوقاتا ثمينة كان يمكن أن تدفع بنا إلى مستويات أفضل وأكثر تقدما.
إن الناظر في أحوالنا اليوم يرى عددا من القضايا الملحة والعاجلة التي تحتاج منا إلى اهتمام خاص. ومنها قضية الإسكان والازدحام الناشئ من تركز السكان في مدن معينة، إذ أصبحت هذه المسألة تشكل هاجسا كبيرا لقطاع واسع من الناس، وأضحى عموم الناس غير قادرين على تملك المساكن نتيجة ارتفاع أسعار الأراضي وتكاليف البناء.
إن مشكلة الإسكان تحتاج إلى منظومة متكاملة من الأفكار والحلول والآليات الجديدة بدءا من التخطيط مرورا بالتنفيذ وانتهاء بالتمويل. إنها تحتاج إلى ترتيبات جديدة بخصوص الأراضي ومساحاتها وكيفية تخطيطها وتوزيعها ومنحها، مرورا بطرق البناء التي يجب أن تتم من خلال شركات تنمية إسكانية وليس من خلال الجهود الفردية سيئة النتائج والتكاليف، وانتهاء بطرق التمويل التي تتطلب إيجاد مؤسسات متخصصة تقدم صيغا وطرقا جديدة لتمويل طويل الأجل يكون في متناول الناس كما يحدث في كل بلاد العالم.
إن سوء خدمات التمويل وارتفاع تكاليفها في بنوكنا يعود بالدرجة الأولى إلى أمرين: افتقار البنوك من ناحية إلى الضمانات الكافية بسبب عدم وجود نظام للرهن العقاري في مجتمعنا، وإلى انتفاء المنافسة في سوق الخدمات المصرفية. وأنا أخالف رأى معالي وزير المالية السابق الأستاذ محمد أبا الخيل الذي نشره في هذه الجريدة منذ فترة، فقد حبذ معاليه زيادة رؤوس أموال البنوك القائمة بدلا من زيادة عدد البنوك، وهذا أمر لا يستقيم مع قواعد الحرية والمنافسة التي يأخذ بها نظامنا الاقتصادي. نعم إن للسلطات النقدية أن تضع من الشروط والضوابط ما تراه ملائما لضبط النشاط المصرفي، لكن عليها أن تترك الخيار بعد ذلك لمن يريد ويستطيع أن يفي بهذه الشروط أن يلج هذا النشاط دون أية قيود.
إن اقتصادا بحجم اقتصاد بلادنا يستحق أن تظهر فيه أعداد من البنوك أكثر من الأعداد القائمة فيه حاليا، وإن من رجال الأعمال السعوديين من لا يقل خبرة وحصافة وانضباطا وإخلاصا من الأجانب الذين سمحنا لهم (أو سنسمح لهم بمقتضى انضمامنا لمنظمة التجارة الدولية) بممارسة الخدمات المصرفية.
إن التردد والتخوف المبالغ فيه والتفكير بطرق شديدة التحفظ هي من الأساليب التي عفا عنها الزمن التي أثبتت التجارب في دول عديدة حولنا أنها سياسات غير صحيحة، ومن شأنها أن تحد من الانطلاق وتعوق النمو الذي تتطلبه المرحلة الاقتصادية الجديدة. كما أن من شأن سياسات شديدة التحفظ كهذه أن تمنح الدول المجاورة فرصا كان يجب أن تقوم في بلادنا وتوفر فرص عمل لشبابنا. وانظر رعاك الله للبنوك في البحرين فإما أن أغلب ملاكها سعوديون وإما أن أغلب عملائها من المودعين أو المتمولين منهم.
إن نحو 60 في المائة من مجمل الديون في كثير من المجتمعات هي ديون ناشئة عن تمويل المساكن، بينما نجد نسبة هذا التمويل إلى مجمل التمويلات التي تقدمها بنوكها تكاد تبلغ الصفر أوهي من الضآلة بحيث لا تذكر؟ والسبب واضح، لقد أحجمت بنوكنا عن تمويل المساكن لعجزها، كما أسلفت، عن الحصول على الضمانات اللازمة، وقد عجزت عن ذلك بسبب عدم وجود نظام للرهن العقاري في مجتمعنا.
من الصعب أن يستمر انتظار الناس كل هذه السنوات الطوال لكي يحصلوا على قرض محدود ومتواضع لبناء مساكن لهم؟ ولا أظن أن مبلغ هذا القرض كاف من الناحية العملية لبناء مسكن معقول بأسعار اليوم؟ كما أنه لم يعد من المناسب لا من ناحية التكاليف ولا من الناحية التخطيطية والهندسية أن تكون عملية تنفيذ ومتابعة بناء المساكن قائمة على الاجتهادات الفردية المبعثرة، فلهذا آثار سيئة على جودة المباني وعلى الشكل العام لمدننا وأحيائنا.
ومن ناحية أخرى، فإن الترتيبات التي عمل ويعمل بها صندوق التنمية العقاري لم تعد اليوم مناسبة، بل وغير فعّالة. ومن العجيب أن يبقى هذا الترتيب دون تغيير يذكر طوال هذه السنوات وإلى يوم الناس هذا، على الرغم من تغير الظروف ونمو السكان وشدة حاجة الناس لهذه الخدمة وأولويتها في حياتهم. لقد بلغ نمو السكان في بعض مدن البلاد أكثر من 8 في المائة سنويا، وهي نسبة عالية جدا حتى بالمقاييس العالمية، إذ يقدر أن العاصمة الرياض وحدها تحتاج خلال الـ 17 عاما القادمة إلى 1.5 مليون وحدة سكنية لإسكان ما يزيد على عشرة ملايين نسمة يمثلون مجموع سكان الرياض المتوقع أن يبلغه سكان العاصمة وحدها وقتئذ.
لا شك أن مجتمعنا أضحى بحاجة لترتيبات وأفكار عاجلة في شكل منظومة جديدة متكاملة لمعالجة مسألة الإسكان المتفاقمة.
إن حاجة الناس للسكن حاجة ضرورية وأساسية وليست كمالية، ولا ينبغي أن ننتظر استفحال المشكلة حتى نبدأ بالتصدي لها، فإن الناس لن تنام في الشوارع. ومادام الأمر كذلك، فلابد أن يرتقي اهتمام أطراف المجتمع ذات العلاقة بهذه القضية إلى المستوى الملائم لأهميتها وأولويتها، سواء في الإدارة التنفيذية الحكومية أو في مجلس الشورى أو في مراكز الأبحاث والدراسات أو حتى في القطاع الخاص كقطاع المصارف والتمويل و قطاع الإنشاءات.
كنت قد تشرفت بتقديم اقتراح للمقام السامي قبل أكثر من ثلاث سنوات لتطوير طريقة عمل صندوق التنمية العقاري، وهو اقتراح يزيد من فاعلية عمل الصندوق ويقلص الفترة الطويلة التي يستغرقها انتظار الناس للحصول على قرض. وملخص هذه الفكرة أن يعمد الصندوق إلى استخدام موارده في تقديم ضمانات للبنوك بدلا من تقديم القرض للأفراد، بحيث تقوم البنوك بتقديم هذا التمويل بطرق التمويل الشرعية التي تشرفنا في مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي في جامعة الملك عبد العزيز وبالمشاركة مع غيرنا بتطويرها وتقديمها للبنوك وأصبحت بالفعل صيغا عملية ناجحة ومقبولة وقابلة للتطبيق. وإذا علمنا أن نسبة الديون المعدومة لا تتعدى 1 في المائة، فإن الموارد المتاحة لصندوق التنمية العقاري سوف تضاعف عدد المستفيدين من الصندوق إلى نحو 99 ضعفا، أي أن كل قرض سوف يستفيد منه 99 شخصا بدلا من شخص واحد.
هذا اقتراح لزيادة فاعلية عمل الصندوق، وهو حل جزئي ومؤقت، لكن حل مشكلة التمويل على الأجل الطويل سيعتمد، في تصوري، على سرعة تبني مجلس الشورى لنظام للرهن العقاري، إذ من شأن ذلك أن يفتح آفاقا واسعة أمام البنوك للمساهمة في توفير التمويل اللازم لتملك المساكن.
إن تفعيل نتائج الزيارة الملكية للدول الآسيوية سيتطلب وجود نظام للرهن العقاري، فمؤسسة التمويل السكني التي أعلن عن إنشائها بين مستثمرين سعوديين ومؤسسة التمويل الدولية بالاشتراك مع أحد البنوك الهندية ستجد صعوبة في تقديم التمويل السكني بدون وجود مثل هذه الضمانات.
ليس الإنسان وحده من يبدأ حياته بترتيب مأوى له، بل حتى العصافير تنشد ذلك، ألا ترى العصفور يبدأ حياته بتأمين عشه، والإنسان لا يقل حاجة ولا اهتماما بمسكنه عن العصفور.
- أستاذ الاقتصاد ـ جامعة الملك عبد العزيز
[email protected]