البريد السعودي .. لنحاول نسيان الماضي
صب أستاذنا القدير عبد الله باجبير جام غضبه على الدكتور محمد بنتن رئيس مؤسسة البريد السعودي في عدد "الاقتصادية" يوم الأربعاء الماضي 25/1/2006م, جراء تصريح للأخير حول خدمة "واصل" وهي (حسب تعريف مؤسسة البريد) "خدمة تتيح للمشتركين فيها إرسال واستقبال الرسائل والمواد البريدية في المنازل والوحدات السكنية والمباني التجارية، اعتمادا على العناوين والأرقام البريدية الجديدة للمنازل والمباني". وقد جاء رد مؤسسة البريد مباشراً وسريعاً على هجوم الأستاذ باجبير في عدد "الاقتصادية" الصادر يوم السبت 28/1/2006م، وبما أن سرعة الرد غير معهودة على مسؤولينا، فهذه نقطة إيجابية تحسب للمؤسسة. ولمن يتابع الموضوعين وردود الأفعال عليهما من خلال موقع "الاقتصادية" على الإنترنت سيجد التفاعل الملحوظ من القراء، فمنهم من زاد الكيل على كيل باجبير ووصف مؤسسة البريد ومسؤوليها بأقذع الصفات وجهودهم بالتقليدية، ومنهم من دافع عن موقف المؤسسة وساندها فيما تسعى إلى تحقيقه. وقد ارتكزت المبارزة بين المواطن والمسؤول حول نقد المؤسسة بنعتها لجهودها "بالتاريخية" و"تضخيمها" للدور الذي تقوم به، وأيضاً "لمبالغتها" في تحديد رسوم خدماتها. وفي المقابل أتى دفاع مسؤولي البريد عن موقفهم من خلال التلميح لحال البريد سابقاً ومقارنته بالوضع الحالي، وتبرير ارتفاع الرسوم بأنه جاء نتيجة الاستثمار "الباهظ" في تطوير البنية الأساسية لنظام بريدي متطور.
بدايةً، لا شك أن باجبير وجميع المواطنين يملكون الحق في نقد المسؤول، ولعل هذه بوادر نهاية عهد إضفاء "القدسية" على شخص المسؤول، وبداية لترسيخ ثقافة النقد المجهري لأداء المسؤولين، وذلك في ظل التوجه الحميد لدى القيادة الكريمة بتوسيع دائرة النقد والمحاسبة سواءً من خلال القنوات الرسمية أو الإعلامية، فالوطن هو المستفيد في نهاية المطاف. حقيقة نشكر باجبير على هذا الهجوم المباشر كما نشكر المؤسسة على هذا الرد السريع (بغض النظر عن محتوى الهجوم والرد)، فقد عمت الفائدة. ولو كنا نتمنى أن يعم الهجوم أسلاف الدكتور بنتن (سامحهم الله)، الذين لا يملكون أي مبرر لتأخير حال البريد السعودي سواءً كان عاماً أو خاصاً، فربما كانت المهمة أسهل بكثير مما هي عليه الآن، مع تزايد الرقعة العمرانية وتعقيدها إضافة إلى الانفجار السكاني.
لقد عانى الاقتصاد السعودي من تخلف الخدمات البريدية بشكل كبير، حيث تركزت هذه المعاناة في تحجيم فرص النمو في قطاعات اقتصادية متعددة والمساهمة في التغييب الكامل لفرص اقتصادية مهمة كتلك التي في قطاع التجارة الإلكترونية، ناهيك عن فقدان مؤسسة البريد نفسها فرصا استثمارية ليست بالهينة في قطاع البريد والتي برزت لها شركات خدمات البريد السريع الأجنبية مثل DHL وFedEx وغيرها فحملت التحدي وحققت نجاحاً في هذا الخصوص ساعدها على زيادة حصتها السوقية أكثر مما ينبغي، وكأنها اقتطعت جزءاً ليس باليسير مما يفترض أن يكون من نصيب مؤسسة البريد. وهذا يشكل تكلفة على الاقتصاد السعودي إذا افترضنا أن جزءا كبيراً من أرباح هذه الشركات يتم ترحيله إلى خارج الحدود الاقتصادية للمملكة، كعادة الأنشطة الخدمية على وجه العموم.
بإمكان القارئ الكريم أن يتخيل حجم المنافع الاقتصادية لاكتمال الخدمات البريدية، والتي قد تشمل خلق فرص وظيفية جديدة لأعداد كبيرة من المواطنين بمختلف مؤهلاتهم ومهاراتهم، كما ستساهم في انسيابية الكثير من المعاملات التجارية والمالية، وتسهيل أعمال التسويق، أيضاً تتجاوز منافع النظام البريدي الرصين الجوانب الاقتصادية لتطول الجوانب الاجتماعية والأمنية والإحصائية. كما ستمثل عوائد البريد مستقبلاً مورداً مهماً يدعم بند الإيرادات غير النفطية للميزانية، إضافة إلى كونها أحد مؤشرات نجاح استراتيجية التخصيص، وحافزاً لتعجيل تخصيص القطاعات الأخرى.
ختاماً، لنحاول نسيان ماضي البريد السعودي وننظر بتفاؤل وثقة حال الخدمات البريدية مستقبلاًُ. ومن تسنح له الفرصة لزيارة موقع مؤسسة البريد السعودي على الإنترنت، سيلمس سعي منسوبي هذه المؤسسة نحو التغيير الجذري، ويبقى الحمل كبيراً على أكتافهم ولكن نتمنى منهم إكمال المهمة بنفس الحماس. وبقدر ما ندعو لهم بالتوفيق في هذه المهمة العسيرة نتمنى منهم التالي: أولاً, إعادة النظر في هيكل الرسوم المطروحة، أو تبريرها للجمهور على اٌقل تقدير، ثانياً, نتمنى أن تُخضع المؤسسة خدماتها مستقبلاً للرقابة النوعية quality control وذلك ضماناً للجودة حتى لا تقع هذه الخدمات تحت طائلة التقادم والتهالك العاجل حسب مزاجية المسؤول ولكي يكتمل العقد ولا تذهب جهودهم سدى. وبالتوفيق للجميع.