عندما يكون الإفصاح بهدف!

من منا لم تسترعه لحد الدهشة غالباً فحوى وأساليب طرح إعلانات الشركات المدرجة في السوق، وتصريحاتها عبر وسائل الإعلان؟ ألم تلاحظ عزيز القارئ أن هذه الإعلانات في مجملها إيجابيةً وليست سلبيةً؟ ألم تلاحظ أيضاً أن بعضها ربما يكون تجهيزاً لإعلان قادم؟ ألم تجد يوماً مجموعة إعلانات لشركة واحدة حول الموضوع عينه خلال فترة قصيرة بينما بالإمكان دمجها في إعلان واحد؟ أراهن أن أكثر إجابات المتابعين إن لم يكن جميعها سينطوي على الإيجاب. تحمل هذه الأسئلة بين طياتها إشارة إلى "سلوك" تنتهجه إدارات بعض الشركات، وأقل ما يمكن وصف هذا السلوك بأنه "غير مهني" وبالإمكان إدراجه ضمن مفهوم "الإفصاح الاستراتيجي" Strategic disclosure أو "الإفصاح بهدف"، وهو سلوك تنتهجه إدارات الشركات بهدف التأثير على أداء سهم الشركة بالارتفاع أو الانخفاض حسبما تقتضيه مصلحة المعلن دونما اعتبار لمصالح المتعاملين ومصلحة السوق كما يمكن تعريفه على أنه توظيف إعلانات الشركة داخل السوق للتأثير على توقعات المتعاملين حول الأداء المالي والإداري للشركة. وهذا النهج بلا شك حيلة "المدير العاجز" لإثبات أن إدارته للشركة كفؤة وكفيلة بتعظيم مكاسب الملاك.

عندما ينص نظام السوق المالية على إلزامية الإفصاح فإن الهدف هو تحجيم تأثير المعلومات الداخلية على أداء السهم وتقصير المسافة بين فترة ظهور محفز المعلومة ووصولها إلى السوق. وقد خُصصت المادة السابعة من نظام السوق المالية لشؤون الإفصاح ولو أنها ركزت كثيراً على الإفصاح من منظور نشرات الإصدار، بينما كانت هناك إشارات فقط للإفصاح من منظور الإعلان عن الوضع المالي للشركة، إلا أنها رسخت مبدأ أهمية الإفصاح في السوق المالية.

أما عن تعامل الشركات مع الإفصاح فقد أتى مغايراً لما ينص عليه النظام، فأصبحنا أمام سيل من الإعلانات أغلبها مُبهم (بكسر الهاء) ومثير للحيرة أكثر منه مُفصِحاً عن حال الشركة. كما أن بعض الإعلانات قد تبدو كأنها شفرات لرسائل لا تعكس واقع الإعلان، فعلى سبيل المثال، إحدى الشركات أعلنت عن أنها تقدمت بطلب زيادة رأسمالها، ومن ثم أعلنت هيئة السوق المالية موافقتها على زيادة رأس المال. وبعد فترة ليست بالوجيزة، أعلنت هذه الشركة أنها بصدد عقد جمعيتها "غير العادية" (وبالمناسبة لم أسمع عن جمعيات غير عادية يتم تحديد موعدها قبل شهرين وثلاثة أشهر! هناك حاجة لمط المفاهيم لكي تناسب مقاس السلوك الإداري لدينا!). ما بين هذين الإعلانين صدرت ثمانية إعلانات، ما بين تنويه وتوضيح، وتعديل في إعلان سابق، وتأجيل اجتماع، وغير ذلك ... كل هذا حول موضوع واحد فقط! والمتابع سيلاحظ أن سهم الشركة المذكورة تجاوب بشكل ملحوظ تقريباً مع كل إعلان من الإعلانات السابقة، إضافة إلى أن أحد تلك الإعلانات، كان مبهماً ومليئاً بالإشارات التي تضع المتعامل في حيرة من أمره. هذا غيض من فيض، والمجال لا يتسع لسرد المزيد من الأمثلة.

لسنا في الحقيقة بصدد التشكيك في نوايا إدارات الشركات، ولكن يبقى الحكم للقارئ الكريم في تحديد ما إذا كان هذا السلوك ضرباً من "الإفصاح الاستراتيجي"؟ أم أنه عدم معرفة من المديرين بأدبيات الإفصاح؟ فإذا كان الأمر يتعلق بعدم معرفة أولئك المسؤولين بشروط ومتطلبات وأخلاقيات الإفصاح فيجب أن تتدخل هيئة السوق المالية من خلال توعية المديرين التنفيذيين بشؤون الإفصاح. أما إن كان الأمر يأتي ضمن قناعة مسؤولي الشركات بأن هذا ضرب من الإفصاح المشروع، فعلى عاتق الهيئة توضيح هذه المغالطة، من خلال إضافة مادة تتعلق (تحديداً) بالإفصاح الاستراتيجي من قبل مسؤولي الشركات، الذين يسميهم النظام "الشخص المطلع". وقد تكون اللائحة التنفيذية الخاصة بسلوكيات السوق هي المكان الأنسب لمادة تتعلق بهذا الخصوص، وذلك من خلال إضافة باب يمكن تسميته "سلوك الشخص المطلع" أسوة بباب "سلوك المرخص لهم"، أو ربما إضافة فقرة ضمن المادة الثالثة من الباب الثاني (الخاص بمنع التلاعب في السوق). وقد يلائم السوق المالية أيضاً أن تجد معايير مناسبة لتحديد الصيغ المناسبة للإعلانات بحيث يتم ترشيح الإعلانات بناء على تلك المعايير منعاً للإيهام والإبهام وقطعاً للأعذار، مع العلم أن للمنظم الحق (بناء على نظام السوق المالية) في توصيف آلية الإفصاح وتقنينها منعاً لهؤلاء المسؤولين من استغلال مفهوم الإفصاح.

- استشاري اقتصادي
[email protected]

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي