أخلاقيات التعامل بالأسهم

إن القوانين مهمة ورادعة، ولكن تطبيقها يكون بعد اكتشاف السلوك غير الأخلاقي، نحن نريد قدر الإمكان، أن نتوقى السلوك اللاأخلاقي قبل حدوثه، أي أن يكون هناك نوع من التحصين للمتعاملين في سوق المال. إن شركات ومكاتب الوساطة المالية ومديري المحافظ الاستثمارية والجهات الأخرى العاملة في هذا المجال لديها مسؤولية اجتماعية كبيرة تجاه المستفيدين من خدماتها.

ورد في صحيفة "الاقتصادية" قبل أيام خبر مفاده أن بعض العاملين في البورصة قد أحيلوا إلى لجنة فض منازعات الأوراق المالية ومن ثم تم تغريمهم بسبب قيامهم بمخالفات تتنافى والسلوك القويم للتعامل بالأسهم. كذلك ورد خبر آخر يفيد بوجود عدة جهات متهمة بتسريب معلومات تخص الشركات المساهمة التي يتم تداول أسهمها في سوق المال وبالطبع فإن هذه التسريبات تكون لمصلحة فئة معينة من المتعاملين الذين سيوظفون هذه المعلومات لجني المزيد من الأرباح أو على الأقل لتفادي خسارة محتملة ولا يتوقع أن يكون حصولهم على هذه المعلومات دون مقابل يدفع لمن يقدم لهم هذه الخدمة. إن هذه الواقعة وأمثالها تحصل في دول أخرى بسبب مشكلة عدم الالتزام بأخلاقيات الأعمال Business Ethics هذه الأخلاقيات التي قد تكون بشكل بنود مكتوبة كما هو الحال في الكثير من الدول المتقدمة التي نضج فيها ما يمكن تسميته بالمدونات الأخلاقية Codes of Ethics، وذلك بسبب عراقة أسواق المال فيها وطول الفترة الزمنية للتعامل بالأسهم. كذلك قد تكون أخلاقيات التعامل بالأسهم غير مكتوبة، بل هي أعراف وتقاليد درج المتعاملون في السوق على احترامها وفي كلا الحالين فإن الحادثة المشار إليها يجب التوقف عندها وتأملها مليا واتخاذ إجراءات مستقبلية تحمي هذه السوق التي تمثل معلما اقتصاديا مهما لا يزال فتيا ناشئا واعدا بالازدهار. إن تطلع الكثير من بسطاء الناس الذين يمثلون شريحة صغار المستثمرين إلى تحقيق أرباح من خلال استثمار مدخراتهم في سوق المال والتعامل في الأسهم هو نقلة نوعية في مسار تطور التفكير الاقتصادي لعامة الناس، وهذا أمر حيوي للتنمية الاقتصادية، حيث إن الدول المتقدمة تتميز بالاستثمار الواسع لمدخرات المواطنين ونحن نعرف أن مشكلة البلدان النامية أو بعبارة أخرى واحدة من المشاكل المستعصية هي الادخار بهدف الاكتناز وليس بهدف الاستثمار. إن تطوير دستور أخلاقي للتعامل في الأسهم أصبح مطلبا ملحا لحماية هذا التطور المهم في وعي وطريقة تفكير المواطنين.
إن التطور الذي حصل في ميدان الاتصالات والثورة المعرفية العظيمة التي يعيشها العالم اليوم وزيادة نفوذ الشركات المساهمة الكبيرة الذي أصبح يضاهي في بعض الأحيان نفوذ الحكومات في بعض الدول، كل هذا أدى إلى أن يكون هناك اهتمام مقابل وبالحجم نفسه في مجال المسؤولية الاجتماعية لهذه الشركات والتزامها بالقواعد الأخلاقية في التعامل. إن هناك إلحاحا من قبل منظمات المجتمع المدني والحكومات لأن تؤطر الشركات المساهمة الكبيرة قراراتها بإطار أخلاقي مستحضرة حوادث وهزات وكوارث مرت بها المجتمعات المتطورة سابقا نتيجة لعدم الالتزام بأصول السلوك الأخلاقي، ولكن الذي يهمنا هنا هو سوق المال السعودية والمتعاملون فيها، لذا سنحاول أن نذكر بشكل سريع بعض السلوكيات التي يمكن أن تلحق الضرر بالمتعاملين، ولا أحسب أنها غير معروفة، ولكن التذكير بها مهم في هذه الفترة بالذات، التي يجب أن يتم متابعتها وتطبيق القوانين بشأنها أو أن تشرع لها قوانين جديدة تجعل حماية المتعامل في الأسهم، خصوصا صغار المستثمرين واثقين من متانة هذا المورد الاقتصادي الجديد الداعم لمدخولاتهم. لعل الحادثة المشار إليها أعلاه هي واحدة من السلوكيات اللاأخلاقية المهمة الشائعة في البورصات في كل مكان فهؤلاء القريبون من مصدر المعلومات Insiders يمكن أن يسربوا معلومات تفيد البعض ولكنها قد تلحق الضرر بالآلاف. إن تسريب المعلومات الخاصة بأرباح الشركات أو خسائرها أو نواياها بتوزيع أسهم مجانية أو غير ذلك قد يحدث اضطرابا في سوق المال بجني أرباحه بعض المتعاملين ويتضرر منه الكثير. إن هذا الأمر إذا تكرر قد يفقد ثقة المتعاملين بإدارة السوق ويخلق حالة من الاتصالات غير الرسمية السلبية لدى المتعاملين بكل ما تحمل من مردودات سيئة على السوق، كذلك قد يستغل هؤلاء بساطة بعض المستثمرين الذين دخلوا السوق بمدخراتهم التي جمعوها بعد كد وتعب استغرق الكثير من السنوات وتضليلهم بمعلومات غير واقعية أو ليست ملائمة، الأمر الذي قد يؤدي إلى ضياع المستقبل وفقدانه.
والأمر الآخر يخص الشركات ذاتها، فالإفصاح الصادق عن مواقفها المالية له أهمية كبرى في الكثير من القرارات الاستثمارية التي يتخذها المتعاملون في السوق، فالصدق والدقة في الأرقام التزام أخلاقي يجب ألا يتم تجاوزه بأي حال من الأحوال وما أمر شركة Enron عنا ببعيد. إن تضخيم الأرباح أو المبالغة في تقدير قيمة أصول الشركة بهدف إظهارها بمظهر العملاق وتعظيم سعر السهم في البورصة قد تكون له نهاية غير محمودة تودي بالشركة وتلحق ضررا بالغا بالمساهمين. أمور أخلاقية أخرى قد تبرز عند الاكتتاب، فعلى سبيل المثال، إعادة الأموال للمكتتبين بعد تخصيص الأسهم وبأسرع وقت ممكن، فهناك شركات في بعض الدول تستفيد من عدم وجود قوانين واضحة تنظم عملية إعادة الأموال لكي تحصل على فوائد مصرفية على المبالغ المودعة في حسابها طوال فترة إجراءات تخصيص الأسهم وحسب قوانين البلد الذي تعمل فيه، إنه سلوك لا أخلاقي. كذلك تبرز اليوم مشكلة كبيرة وهي غسل الأموال، لذا يجب الانتباه إلى الأموال الوافدة من الخارج للمساهمة في الشركات المحلية فقد تكون أموالا غير نظيفة والهدف من الاكتتاب بمبلغ ضخم هو تبييضه كما حصل في بعض الدول. أمر آخر يحتاج إلى تأطير أخلاقي وهو واقعية ومدى جدية الكثير من المشاريع التي تؤسس لها شركات مساهمة وتجمع أموالا ضخمة لرفدها، وكثيرا ما يحصل أن يكون القائمون على هذه المشاريع الضخمة البراقة مغامرين وليسوا رجال أعمال حقيقيين. إن وجود جهات مركزية متخصصة في متابعة هذه الحالة ضروري جدا، حيث إن الذين يدخلون هذا الميدان هم من المحترفين الذين لا يلتزمون أساسا بسلوكيات أخلاقية مهنية.
بعد هذا الاستعراض السريع لبعض الخروقات والتصرفات اللاأخلاقية للتعامل في الأسهم هل تكفي القوانين وحدها لمعالجتها؟ إن القوانين مهمة ورادعة، ولكن تطبيقها يكون بعد اكتشاف السلوك غير الأخلاقي، نحن نريد قدر الإمكان، أن نتوقى السلوك اللاأخلاقي قبل حدوثه، أي أن يكون هناك نوع من التحصين للمتعاملين في سوق المال. إن شركات ومكاتب الوساطة المالية ومديري المحافظ الاستثمارية والجهات الأخرى العاملة في هذا المجال لديها مسؤولية اجتماعية كبيرة تجاه المستفيدين من خدماتها وتجاه المجتمع واستقراره. كذلك شفافية العمل والإفصاح الصادق من قبل الشركات (القوانين في كثير من الدول تنص على إفصاح ريع سنوي) يدعم السلوك الأخلاقي ويساعد على إشاعته. كذلك لا نغفل مسؤولية المدققين الخارجيين والداخليين في دعم نزاهة التعامل من خلال حرصهم على احترام مبادئ وأخلاقيات مهنتهم، فالتزام الحقيقة وعدم المساهمة بالتستر على حسابات خاطئة أو مبالغ فيها وعدم المصادقة على أرباح مضخمة وأصول مبالغ في تقديرها مقابل مكافآت مجزية تدفعها الشركة المستفيدة هو أمر مطلوب وداعم لشيوع المبادئ الأخلاقية في تعاملات سوق المال.
إن دول العالم المتطورة وحتى النامية تشجع اليوم صياغة وكتابة ما يسمى بالمدونات أو الدساتير الأخلاقية لتوضيح ما هو مقبول وما هو غير مقبول من سلوكيات في ميدان العمل. إن خصوصية العمل أو التعامل في سوق المال تكمن في أن الحماس والاندفاع والرغبة في تحقيق أرباح سريعة يدفع الكثير من المتعاملين إلى اتباع وسائل غير نزيهة أحيانا للوصول إلى هدفهم ويحصل هذا بشكل أكبر من أي قطاع أو عمل آخر بسبب طبيعة العمل في هذا المجال كما أشرنا سابقا. إن الفورة التي تشهدها سوق المال السعودية اليوم سبق وأن مرت بها دول أخرى وإن اختلفت الظروف، لذا فالاستفادة من المعالجات لحالة الخروقات الأخلاقية في دول أخرى والاستعانة بما لديها من مدونات أخلاقية يمكن أن تدعم صياغة دستور أو مدونة أخلاقية تخص سوق المال السعودية أمر مفيد وعامل مساعد في تطويره.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي