سوق الأسهم السعودية... وأزمة الأخلاق!
نشأت المهن والحرف سواءً التقليدية منها أو الحديثة من منطق اقتصادي بحت حده الأدنى البحث عن الرزق وسد الرمق، وحده الأقصى تعظيم الثروة لحد تفحيشها. غير أن هذه المهن مع تطورها عبر الزمن لم تقف عند هذه الحدود بل أنشأت ثقافات تخصها وتضع إطاراً عرفياً لتنظيم شؤونها، بحيث تجد داخل كل مهنة مداخل ومخارج لا يعرفها إلا أصحاب تلك المهنة، وتوزيع أدوار فريد، حيث نجد الحرفي البسيط، وشيخ المهنة، كما نجد المنافسة العادلة وغير العادلة، والكبير يأكل الصغير، وغير هذا من أمور المهن المختلفة.
عقب التطور النوعي الذي شهدته سوق الأسهم السعودية، ظهرت على السطح "مهنة" جديدة نسبياً (إن صح تعبير المهنة) وهي مهنة المتاجرة بالأسهم. هذه المهنة لم تستقطب الكثير حتى بداية الألفية الجديدة لأسباب لسنا بصدد الحديث عنها في هذا المقال. وعلى الرغم من حداثة المتاجرة بالأسهم على نطاق واسع في المملكة إلا أن ثقافتها تنامت بشكل لافت للنظر. فأصبح لهذه المهنة "شيوخها" (أو هواميرها) وهناك "صبيان المهنة" (أو صغار المستثمرين) وهناك "المرتزقه" وهم كثر! كما نشأت ثقافة الأفعال فهناك "تكاتف" الهوامير و"صراع الهوامير" مع المنظمين. ربما يختلف الكثير على هذه التسميات، ولكن هذه هي لغة الشارع شئنا أم أبينا!
وتأتي أخلاقيات المهنة كجزء لا يتجزأ من أصول المهنة، ويتضمن مفهومها الكثير من التفاصيل التي تدور في مجملها حول محور عدم التعدي على أرزاق الآخرين وحقوقهم، والالتزام بمبادئ التعامل الإنساني كالصدق، والنزاهة. وقد نشأت فكرة تأصيل هذه الأخلاقيات ضمن إطار المهنة نتيجة لوجود أفعال تنافي تلك الأخلاقيات عندما يصاحب التعامل المهني الكثير من التجاوزات. الأمر ذاته يجري على سوق الأسهم إن لم يكن وقع التجاوزات أشد لأنها قد تأتي على مدخرات الكثير من صغار المتعاملين. فمنذ تسهيل آلية التداول ومع ظهور التنظيم الحقيقي للسوق المالية، لم تخل السوق (من خلال مجريات التداول اليومي) من وجود المحتالين وضعاف النفوس والمرتزقة. لهذا أتى مشرع السوق ومنظمه بباب في نظام السوق المالية ليضع إطاراً لأخلاقيات مهنة التعامل بالأسهم (أو الأوراق المالية على وجه العموم). حيث يحوي الفصل الثامن من النظام بمادتيه 49 و50 على توصيف لطبيعة الأعمال المخالفة لأحكام النظام كأن يقوم المتعامل بإيجاد انطباع غير صحيح أو مضلل بشأن السوق أو الأسعار وذلك لحث الآخرين على الشراء أو البيع أو الاكتتاب. والأمر ذاته يجري على ما يختص بالتداول بناء على معلومات داخلية. وقد أتت اللائحة التنفيذية الخاصة بأخلاقيات السوق على تفاصيل هذه الأعمال "المنافية" لأخلاقيات المهنة، والعقوبات الواجبة على المخالفين.
مع كل هذا، ومع بوادر تفعيل هذه المواد من خلال الإيقاع ببعض المتجاوزين لأحكامه، وتنفيذ العقوبات بحقهم. إلا أن المتابع الحصيف للتداولات اليومية قد يلاحظ أن هذه التجاوزات ما زالت مستمرة، ومنها ما يمكن كشفه، ومنها ما هو في الأساس تجاوزات تتم دون خروج عن النظام (يعني فهلوة!). وعادة ما تكون مدفوعة بالجشع نتيجة تولد قناعة عند أولئك المتعاملين أن العوائد المتنامية للسوق أشبه ما تكون لحظية نسبياً لهذا يجب تحقيق الحد الأقصى منها قبل أن تتلاشى، وسمعت أن البعض الآخر (وهم قله) يبرر الأفعال لقناعته أن "نظام السوق المالية" نظام "وضعي"! فقط ليجد لمخالفاته مخرجاً "شرعياً" كما يعتقد!
حقيقة مهما سعت الجهات المسؤولة نحو مكافحة مثل هذه السلوكيات إلا أنها ستبقى ما بقي السوق وما بقي ضعاف النفوس ممن يتساهل في التعدي على الحقوق. فقد ثبت أن هذه السلوكيات ما زالت موجودة حتى في أكثر أسواق المال تقدماً على الرغم من السعي الدؤوب لمنظمي تلك الأسواق نحو تطوير النظم لتستطيع رصد المخالفات بأنواعها، وقد يجد المتابع لأخبار تلك الأسواق في قضية السيدة مارثا ستيوارت خير دليل. فقد نجحت في تجاوز خسارة فادحة عقب حصولها على معلومات داخلية، بالطبع هذا ما ظهر للملأ وقد يكون ما خفي أعظم. طبعاً على الرغم من الشهرة والنجومية اللتين تحظى بهما السيدة ستيوارت إلا أنها دفعت مبالغ كبيرة وزُج بها في السجن أيضاً. ويبقى التوجه في تلك الأسواق نحو تحجيم هذه السلوكيات والتخفيف من آثارها، لأن إلغاءها ضرب من المستحيل، حيث إنها ستبقى ما بقي إنسان يسرق.
من الواضح أن هيئة السوق المالية لدينا تسعى نحو مخاطبة المتلاعب مبدئيا باللغة التي يفهمها من خلال جعل مثل هذه السلوكيات مكلفة مادياً عليه، ولعل تغريم ثلاثة أشخاص نحو 170 مليون ريال يقف شاهداً على ذلك. في الحقيقة إن السوق في حاجة إلى عقوبات أشد من العقوبات المالية، فإن كان هناك من يرتدع بالغرامة المالية فهناك من لا يرتدع إلا بما هو أشد، وكل هذا في سبيل تحجيم هذه المخالفات. أما عن آلية رصد وصيد مثل هذه المخالفات، ربما يكون من المناسب أن تنصب الجهود نحو توظيف التقنية الذكية لترشيح الصفقات اليومية في السوق، وفي الوقت نفسه العمل نحو تحجيم تأثير هذه السلوكيات على السوق من خلال التعجيل من وتيرة إدراج الشركات كخطوة من ضمن عدة خطوات متوخاة لتعميق السوق، بحيث لا يصبح لعدة أشخاص هذه القوة الخارقة على قلب موازين السوق خلال ساعات.