طعم الحج

كنت وما زلت أحن إلى طفولتي فقد نشأت في بيئة العائلة الكبيرة المكونة من الجدود والأعمام والعمات والخالات والأهل بصفة عامة، والترابط الأسري بين هذه العائلة الكبيرة المتمثلة في جمع الكل في يوم الجمعة من كل أسبوع في بيت سِيِدِي (جدي لأبي وكما كنا نطلق عليه سيدي) وأكل السمك من يد سيدي وسيدي طباخ ماهر ولا يطبخ سوى في المناسبات الكبيرة مثل بعض الجمع والأعياد والحج.
وبما أننا عائلة مطوفين فوالدي ـ رحمه الله ـ مطوف وبالتالي أنا وإخوتي مطوفون فلقد عاصرت الحج والحجيج منذ أن وعيت الدنيا وعرفت البشر.
ولا أعلم بالضبط كم مرة حججت مع أهلي فقد كانت عادة سنوية نستعد لها من قبل الدخول في شهر الحج فأمي وعماتي يجهزن المعمول والغريبة والمكسرات والملابس ومستلزمات التخييم في عرفة والسكن في منى.
ووالدي وأعمامي وأولاد العم يجهزون للحجاج السكن في مكة والخيم والسكن والفرش والطعام والتنقل في المشاعر المقدسة.
وتأتي الأيام الموعودة والحقيقة أن الزحمة الشديدة والتأخير في الوصول إلى عرفة يوم التروية كانت سمة ذاك الوقت وحتى قد نضيع في الطرقات كي نصل إلى المخيم وقد تمتد هذه الرحلة إلى 12 ساعة تقريباً.
ولكن لم نكن نشعر بأي قلق أو خوف سواء من الأهل أو من الحجاج. فالتكبير والتهليل وقراءة القرآن وطرح الأحاديث الدينية كان يسلي الطريق وينعش القلب، وكنا نحن الصغار نتسلى بالقصص الخاصة الطفولية، وكل ذلك في الأتوبيسات الكبيرة غير المكيفة.
وفي النهاية نصل بإذن الله إلى عرفة ليلاً حيث إننا آخر الأفواج لأن والدي كان يضع الأولوية للحجاج ثم للأهل.
وفي فجر يوم عرفة وبعد صلاة الصبح يستيقظ سيدي ومعه العمال لطبخ الفطور لجميع الحجاج الذين قد يفوق عددهم 700 حاج وحاجة في المخيم.
وكان الفطور مكون من الزلابية، لقمة القاضي، بالشيرة، بجانب الأجبان والزيتون و الحلاوة الطحينية والشريك، ولمن لا يعرف الزلابية فهي عجين مخمر ومفرود مثل الصحن ويقلى في الزيت الغزير ويؤكل بالعسل أو الشراب المحلى ولقمة القاضي مثله ولكن في حجم اللقمة الواحدة.
يبدأ الذبح في المكان المخصص للمطبخ وسيدي يبدأ بطبخ طعام الغداء للحجيج المكون من اللحم، الأرز، السلطة، الطحينة، الكبدة، السمبوسك، والفاكهة، ومن تلك الأيام وللأسف من كثرة ما رأيت من ذبح وسلخ ودماء لا أستطيع أكل اللحم حتى الآن.
ثم يأتي وقت صلاة الظهر والعصر جمعاً ودور الدعاء ويقف والدي أمام الحجيج يدعو ويلهج لسانه في الدعاء بصوت خاشع مرتفع يتدرج إلى التضرع والبكاء مع تعاظم الدعاء ويجاريه الحجيج في البكاء والدعاء. وفي نهاية هذا الدعاء يشعر جميع الحاضرين وأنا منهم وكأن الذنوب قد غسلت مع هذا البكاء و التضرع.
كما يصبح والدي دون صوت ولا يستطيع الوقوف من قوة الجهد المبذول في الدعاء الذي يخرج من القلب راجين الله المغفرة و الثواب.
وبعدها يتفرغ كل فرد للدعاء بمفرده، وبعد المغرب تبدأ النفرة إلى مزدلفة وتستمر طوال الليل ثم الذهاب لمنى لرجم الشيطان والبقاء بها أيام التشريق ويستمر النظام بتسكين وإطعام الحجاج والذي تقوم به جميع العائلة حتى أمي وعماتي للحجاج المتأخرين عن موعد الطعام.
وكان بعض الحجاج زوارا دائمين أي يأتون سنوياً فكنا نعرفهم مثل الأهل والأقارب، من تزوج ومن أنجب ومن توظف، وحجاجنا كانوا من أهل تركيا، المغرب، الجزائر، ليبيا، تونس، الجزائر، ومصر والذين ما زالتُ على علاقة ببعض من نسائهم حتى الآن فهن صديقات الطفولة الجميلة.
الجميل أنه مع كل الصعوبات والتعب كانت رحلة الحج جميلة لأنها عائلية فكل فرد له عمل حتى أنا كان والدي يطلب مني الإشراف على توزيع الفاكهة على خيم الحجاج لأنني كفتاة صغيرة قد لا أستطيع القيام بمهمات أكبر، وكل من إخوتي وأعمامي وأبناء العم وحتى الأقارب من الدرجة الثانية كانوا يشاركون في خدمة الحجاج.
واللباس الأبيض نساءً ورجالاً وأطفالاً ولا أنسى الاحتفال في أيام العيد بمنى بكل من يحج لأول مرة بحفلة صغيرة اسمها الجوجو خاصة للأطفال.
ومنذ نحو ثلاث سنوات كتب الله لي الحج مرة أخرى، والحمد لله بعد انقطاع سنوات، ولم يكن الحج مثل ما مضى فقد تسهلت الطرق والحمد لله وأصبحت التجهيزات متوافرة في كل وقت ومكان.
ولكن تظل ذكرى وطعم حج زمان أجمل بكل عاداته وتعبه وصعابه التي مرت بنا فهي الأصل والشعور بأن الذنوب غسلت مع الدموع التي ذرفت ما زال طعمها في قلبي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي