الواقع الآخر

يزخر كثير من مواقع الإنترنت العربية بكتابات متنوعة تبحث في جميع شؤون الحياة وحتى ما بعد الحياة. وتتصف أغلب هذه الكتابات بأن كتابها غير معروفين ويوقعون بأسماء مستعارة وهذا يعطيهم مساحة شاسعة بل غير محدودة من الحرية والجرأة في النقد والتنظير والكشف. وتبدو تلك الكتابات كأنها تطل على الواقع من مسافة شاهقة وبعيدة أو كأن منتجيها يعيشون في كواكب ومجرات أخرى.
ويطلق على ذلك الواقع "الواقع الافتراضي الثقافي" أي أنه واقع مفترض وغير حقيقي وغير متحقق على الأرض, مما أتاح للكتاب الإيغال في الوهم والمثالية، ولأنهم كذلك يذهبون في كل الاتجاهات ويبحثون في كل التخصصات وفوق ذلك ينصبون أنفسهم قضاة ومحامين ومشرعين.
لقد استنفد كثير من كتاب الواقع الافتراضي الثقافي أنفسهم وعبروا عن توجهاتهم بصورة واضحة إلى درجة التزييف وإقصاء الحقيقة. وهنا تكمن المشكلة الكبيرة حيث تجد من المتابعين والقراء من يركض خلف سراب هذا الواقع الافتراضي بإيمان عميق وثقة عمياء بإمكانية تحققه على الأرض. ويأخذ الاتجاه منحى التعصب ورفض ما سواه حتى أصبح كأنه واقع حقيقي يجب الالتزام به حرفيا.
وحين تنظر إلى تلك الكتابات تجد أنها لا تسعى إلى تأسيس مبدأ حرية الرأي والتعددية, كما أنها لا تأخذ بعين الاعتبار الظروف الموضوعية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات. إذ يصبح الواقع الافتراضي قابلا للتطبيق على الأرض في كل زمان ومكان وعلى الجغرافيا والتاريخ, ويأخذ كثير من تلك الكتابات الاتجاه النقدي لمجرد النقد وقد يتعدى ذلك إلى توجيه الاتهامات إلى الأفراد أحيانا بالاسم أو بالتلميح, وكلما كان المتهم شخصية مرموقة كان المقال أكثر جذبا للقراء والمتابعين وأكثر تداولا وانتشارا بين المواقع, وهذا لا يعني أن الاتجاه النقدي غير مجد ولكنه كثيرا ما يفتقر إلى الحقائق والبراهين, كما أن الشخصيات العامة غير مقدسة ولكن أن تتحول الكتابات إلى هجوم شخصي بحت يفقدها صدقيتها بل يجعلها أقرب إلى العبث والإثارة لمجرد الإثارة.
هل غير هذا الواقع الافتراضي شيئا ملموسا على الأرض، أم أنه زاد الطين بلة؟
إذا نحن تابعنا كتابات هذا الواقع الافتراضي نجد أنها لم تغير شيئا بل جرت المجتعمات إلى مزيد من الفرقة وربما الكراهية وفرض رأي واحد وصوت واحد ولون واحد, بينما الاتجاه الصحيح هو إشاعة التسامح وقبول الآخر والترويج للحوار وإرساء دعائم المجتمعات المدنية والقانون وخلق روح التفاؤل والمساواة وحب الخير والإصلاح والإيمان بالمستقبل. ينبغي على المسؤولين عن تلك المواقع وعلى الكتاب أنفسهم وضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار والابتعاد عن كل ما يثير الفرقة، والاقتراب من الواقع بصورة حقيقية وصادقة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي